يغلب على المجتمع بجميع أطيافه حالة ترف لم تمر على هذه البلاد منذ نشأتها، الحالة تمثل هوسا ماديا بشكل يدعو للدهشة والألم. فهل مجتمعنا يلهث وراء المادة ؟، وهل أصبح يعيش من أجلها ويتفانى في البحث عنها بوسائل عدة؟ الأعوام العشرة الأخيرة تكشف بوضوح ما ألمح إليه، فبعد أحلام الغنى التي رسمتها الأسهم في رحلتها الأولى، وكيف تخلى أكثر الناس عن أهم ممتلكاتهم، من بيوت معمورة، وسيارات مركوبة، وعقارات مملوكة، بل تجاوز ذلك لتزويج من يعولون من بنات صغيرات وأخوات عاجزات لمن لديه مال؛ كي يساعدهم في درء مفاسد لهاثهم وراء فقاعة الأسهم وسرابها، ولا شك أن قلة اغتنت من ورائها، وكثير رفع عقيرته بالويل والثبور فأصبح نادما متحسرا وكأنه من أصحاب الجنة حين أصبحوا نادمين !. وما فتئت نار الأسهم تخبو حتى أوقدت نار العَقار وأصبح لها عُقار!، يسمعه من يسمعه ويصمُّ أذنيه من أبى واستكبر، فغطت تلك النار أعين القوم فلا يبصرون سوى هامات بناياتهم شامخة، وأيدي أراضيهم ممتدة، وكبر الحلم وعجزت الأنامل والأكف عن بلوغه. وها ريح الأسهم تهب من جديد والأنفس تستقبلها بشي من تخوف ولوعة على ما مضى، وأمل لا ينتهي ببلوغ الغاية التي عجزت تلك المرحلتين السابقتين عن غايتها!. وعلى الرغم من الدروس المجانية التي قدمها الزمن لنا - نحن أفراد المجتمع المغلوبين على أمرنا - إلا أن ذاكرة الألم مثقوبة فسرعان ما نسيت أوجاعها وآلامها، وسرعان ما نسيت تيّبسَ أوداجها عطشا وحزنا على ضياع أموالها. وبين تلك المآسي التي مرت وتمر وتلك الخسائر التي أرهقتنا وسترهقنا ما تزال حالة الترف والبذخ ومتابعة كل جديد في جميع مناحي الحياة من وسائل اتصال وملابس ومراكب، ومطاردة تنافسية للمطاعم والمهرجانات مبنية على غيرة حمقاء وحسد أهوج، وهوس بالسفر لكل بلاد نسمع هنا ولا نراها سوى تسوقٍ تقليدا أعمى ... وهو ترف ناجم عن ريع اقتصادي كسول تتكفل به قوة اجتماعية محددة هي الحكومة أو الدولة فتصبح حكومة ضمان وحكومة إعانات !!. أقول : ما زالت حالة الترف تطغى على غالبية من المجتمع، وما زلنا لا نتعلم من دروس الماضي القاسية التي آلمتنا كثيرا، وها نحن ننعتق من حبالها بعد (سبع سنين عجاف) مرت علينا منذ (حرب الخليج الثانية) حتى نكبة (الأسهم الأولى)!. فاللهاث وراء كل وسائل جديدة في عالم الاتصال، واستبدال المراكب مركبا وراء مركب، وتشكيل اللباس بألوانه ومتابعته بشكل يخرج القول المأثور: ( مركبه حسن وملبسه حسن ومظهره حسن )، متجاوزا في ذلك إلى الغلاء والتفريط في كل شيء، ومتابعة ( الموضة )، ومحملا نفسه قروضا طائلة، تتكشف في كثرة مكاتب ( التقسيط) التي انتشرت بعد أن عجز القوم عن الوصول إلى غاياتهم في الترف والبذخ دون حاجة ماسة. وبعد أن استوفت منهم ( البنوك ) مبلغها من معاشاتهم التي ما ( عاشت ) بعد تدني قيمة الريال !. كل هذا يحدث وغيره كثير مما يعرفه العاقل !. السؤال القائم : لماذا وصلنا إلى هذا الحد من البحث وسائل الترفيه وقيّضنا جهودنا لكل نصل إلى كلمة نسمعها ولا نراها ( أبي أرتاح )، وأخرى تأتي في سياقها ( تعبت والله من الشغل) وحين تشاهد مصدر التعب تجده - إن صدق- عملاً حكومياً لا يتجاوز نصف النهار!. ومع هذا لا نجد لنا نتاجاً نسعدُ به بين أُولي السّبقِ في مختلف الميادين، وإن كان وُجد فهي حالات قليلة لا تتعدى أصابع اليدين عدًا ؟. فاصلة : يقول ابن خلدون في مقدمته واصفا الجيل الثالث- وهو جيل الترف والبذخ- من كل دولة: إنهم منغمسون تماما في الترف والملذات والدعة، وغنهم لا يتحملون مسؤولية أنفسهم، ولا مسؤولية النهوض بوطنهم، فيبلغ فيهم الترف غايته ... فيصيرون عيالا على الدولة .... أحمد اللهيب