كان بول ريكور في نظريته الشهيرة (التأويل) يؤكد أن التجربة تظل أمرًا شخصيًا خاصًا إي أنه لايمكن لتجربتي أن تصبح تجربتك كاملة غير منقوصة ومايقع في خلد أحدنا لايمكن أن ينتقل إلى خلدك كما هو ومع ذلك يعبر شيء ما من هذه التجربة من صاحب التجربة إلى متلقيها. ويضيف مؤكدًا أن ماينتقل من التجربة هو مغزاها ومعناها. أما نقل التجربة كما عيشت فيظل مستحيلًا، حتى الآن على الأقل يبدو هذا الأمر واقعًا وملموسًا.بناء على ما تقدم فإنه من المستحيل استنساخ التجارب من شخص لآخر ومن مجتمع إلى آخر والتطبيق يختلف من شخص لآخر بحسب كثير من الأمور المحيطة بالتجربة منها ماهو متعلق بالشخصية التي تود تطبيق تجربة ما، ومنها ما هو متعلق بالمتلقين ومن تطبق عليهم التجربة، ومنها ما هو متعلق بظروف مختلفة بيئية وثقافية واجتماعية ونفسية وحتى أمور تتعلق بالمعتقد الديني مما يتسبب في فشل بعض التجارب عند مجرد محاولة تطبيقها، ولكن ريكور نفسه يؤكد أن الاتصال في حد ذاته يعد انتصارًا على عدم إمكانية نقل التجربة كما عيشت في بيئتها الأصل. ومن هذا المنطلق فكثير منا يتساءل عن إمكانية نقل تجربة هنا أو هناك وإمكانية نقلها، وهو تساؤل مشروع وهذا التساؤل هو استقراء للمستقبل وتنبوء استباقي به ويظل مفيدًا ومنطقيًا وعمليًا، لأن هذا التساؤل يسهم في كشف عيوب التجربة الأصل ومعوقات تطبيقها في بيئة أخرى مختلفة أو متشابهة مع البيئة الأصل وقد يؤدي في كثير من الأحيان إلى إدخال تعديلات على التجربة الأصلية لتوافق البيئة الجديدة ومن أجل تهيئة فرص أكبر لنجاح التجربة ومن المستحيل إصدار حكم علمي صارم يؤكد نجاح تجربة ما دون إخضاع التجربة نفسها للتجريب وقد يغيب عنصر ما عن تجربة فتفشل وقد نستعجل الحكم عليها فنئدها مع أنه من الممكن جدًا أن نتعامل مع التجربة بشمول وفهم أوسع ونتريث في الحكم فنجري بعض التعديلات ونتجاوز بذلك الهنات ومواطن الخلل ونرفد التجربة بما يوائم البيئة التي طبقناها فيها فتصبح أكثر نضجًا وأكثر مواءمة وأكثر فائدة. وفي ثقافتنا المجتمعية مايشبه النفور من نقل تجارب الآخرين مع أننا في أمس الحاجة للتعرف عليها ومحاولة تطبيقها ونتذرع كثيرًا بأن التجربة (س) نجحت في الموقع (أ) لأن الظروف مختلفة بينما لم تنجح لدينا لأن الظروف غير مهيأة لها ولم نحاول حتى مجرد محاولة تهيئة وتكييف واقعنا لإجراء تلك التجربة وتطبيق المشروع وبالتالي نخسر الكثير عندما يكون هناك عزوف جماعي عن محاولة التعرف على التجارب المختلفة ومحاولة تطبيقها بعد أن نخضعها للتعديل بما يتوافق وبيئتنا الجديدة، ثم بعد ذلك نسعى للتطبيق والتريث في إصدار الحكم النهائي ويستعاض عن ذلك بالتقويم المرحلي والتتابعي مع إجراء المزيد من التعديلات على التجربة وعلى إجراءات التطبيق حتى نصل في النهاية إلى حكم منطقي وواقعي على تجربة ما. وبكل تأكيد فإن التغيير لا يأتي إلا عن طريق تجريب الكثير من الممارسات والتغيير في عصرنا هذا مطلب حقيقي. كل هذه المقدمة الطويلة هي توطئة- قد تكون ضرورية - لموضوع أود طرحه هنا لأنه من وجهة نظري يعد تطبيقًا جديدًا وفوق هذا هو محاولة جادة لإحداث تغيير مطلوب في ممارسات المعلمين بحيث تصبح ممارساتهم أكثر جودة. ومن المعلوم أن هناك الكثير من الممارسات في الغرب هي في مجملها ممارسات جادة وتهدف للارتقاء بقدرات المعلم وتطويره مهنيًا ولم تأت تلك الممارسات اعتباطًا بل انطلقت من فهم واع ودراية كبيرة بطبيعة الناس ومجتمع المعلمين شريحة منهم ومن تلك الممارسات التي تنتشر بكثرة في الدول المتقدمة (المسلسلات التعليمية) التي تتناول مواضيع تتعلق بالمعلمين وممارساتهم والطرق الصحيحة التي يجب أن يتبعوها لكي يصبحوا أكثر إجادة لعملهم وإعطائهم المعلومات التي هم في أمس الحاجة إليها ليتقنوا عملهم. وتحمل هذه المسلسلات عناوين جذابة مثل (المعلم الناجح) (لقد اخترت أن أكون حريصًا) (وكيف تكون معلمًا من الدرجة الأولى؟) هذه المسلسلات التعليمية والأفلام التسجيلية من أفضل الطرق التي تثري عمل المعلم وتزوده بالكثير مما يحتاج إليه، كما أنها أفضل طرق التعلم والتطور لكونها تتميز بأنها تقدم النماذج المرئية للعمل مقرونة بالصوت والحركة ولذلك فهي أكثر ثباتًا في الذاكرة، كما أنها من أفضل من المواد المكتوبة لأنها تقدم نموذجًا يمكن محاكاته صوتًا وصورة وحركة وهذا متعلق بالطبيعة المحببة للدراما نفسها التي تقدم الفكرة على شكل أحداث متتالية ومتى أحسن صياغة سيناريو الأحداث وعرضها بتسلسل منطقي يجعل من تلك الأحداث تنمو نموًا طبيعيًا ودون مبالغات كبيرة وصولًا إلى ذروة الحدث والعقدة وانتهاء بالحل فإن هذا التسلسل للأحداث يجعل المتابع يعيش أجواء ذلك الحدث ويتواصل معه وتتسلل تلك الأحداث إلى شعوره ووجدانه ويحدث تبادل من نوع ما مع المشهد فتؤثر أكثر في المتلقي وتجعله يميل لتطبيق الحلول والممارسات التي شاهدها عمليًا في كل حدث مشابه حتى بدون وعي منه لكون تلك المشاهد قد سكنت في وجدانه وتسللت إلى اللاشعور فيه. وفي بعض الأحيان تفتح تلك المشاهد للمتلقي آفاقًا أوسع نحو ممارسات أفضل مستمدًا من تلك التجربة ما يحتاج إليه في موقف معين ومضيفًا له ما لديه من ممارسات تجعل مايقوم به من عمل أكثر جودة وتميزًا. وما يقال عن المسلسلات التعليمية التي تقدم نماذج للممارسات التدريسية التي يجب أن ينفذها المعلمون في الصف الدراسي هناك (التسجيلات الصوتية) التي يقدمها الخبراء في مجال التربية في مجالات الإدارة الصفية والنصائح اليومية للمعلمين وإتقان مادة الدرس وطرق التدريس وطرق ووسائل مساعدة لإغناء البيئة الصفية والجدار المدرسي بالمثيرات البصرية والحسية وإطلاع المعلمين على أفضل الممارسات والنشاطات التربوية في مختلف المجالات المتعلقة بعمل المعلم. ولعل ((بوابات إلكترونية)) اليوم يساهم في تقديم مواد متنوعة للمعلمين بين المواد المسجلة والمصورة والمكتوبة وتطلعهم على الكتب التربوية التي تتحدث عن جوانب عمل المعلم المختلفة. ويمكن ترجمة الكتب التربوية النافعة في هذا المجال وتقديمها مسجلة صوتيًا على شكل أدلة وحلقات ومسلسلات بواسطة خبراء تربويين وبأصوات مقدمي البرامج الإذاعية والتلفزيونية أو عن طريق حوارات صوتية أو مرئية عبر الشبكة العنكبوتية أو التلفزيون أو الإذاعة أو باقتنائها من محلات الفيديو أو محلات بيع الأقراص المدمجة والتسجيلات الصوتية، وأراها بديلا جيدا عن طباعة الكتيبات والأدلة وتوزيعها على الميدان التربويلأنها تجربة لم تكن ذات جدوى كبيرة، وقد لمسنا أن هناك أدلة وزعت على الميدان لم تقرأ من قبل جميع المعلمين لاعتبارات عدة من أهمها أن هناك عزوفًا عن فعل القراءة ولكن هذا لايمنع أن نستمر في طباعة تلك المواد في أدلة وكتيبات ونشرها عبر شبكة الأنترنت بصيغ مرئية ومسموعة وعلى شكل تسجيلات على أقراص مدمجة وأفلام مرئية وبصيغ الحفظ المتاحة على الأنترنت ك((pdf)) ونحوها من أجل استهداف أكبر شريحة من المعلمين لأن هناك من يفضل السماع وهناك من يفضل المشاهدة وهناك من تستهوية القراءة وبذلك نكون قد استهدفنا معظم إن لم يكن جميع أفراد الشريحة المستهدفة. وهنا يأتي دور وكالة الوزارة للتطوير التربوي ووكالة الوزارة للإعلام التربوي بالتعاون مع وزارة الثقافة والإعلام وبقية الجهات الأخرى التي يمكن أن تسهم في تحويل المشروع إلى واقع معاش. لعل فيما طُرح هنا نسقًا جديدًا وممارسات غير مألوفة وقد يراها البعض طرحًا غريبًا وقد يحاكمه البعض بقسوة وأنه حل غير مجد لكنها ممارسة مألوفة لدى غيرنا وفي كثير من البلدان بصورة أو بأخرى، وكثيرًا ما يتم هناك توجيه النصيحة للمعلم بقراءة موضوع معين أو اقتناء فيلم تسجيلي أو الاستماع إلى برنامج معين يبث عبر الإذاعة أو الدخول إلى بوابة إلكترونية معينة أو موقع اليوتيوب وماشابهها من المواقع الإلكترونية لمشاهدة موضوع معين أو الاطلاع على برنامج مُعين. وهذا مايجب أن نتوجه إليه وما يجب إيجاده لرفع مستوى الأداء في موضوع معين إضافة إلى الممارسات المتبعة حاليًا. وبرنامج استقبال المعلمين الجدد لدينا سيكون أكثر جدوى فيما لو كان هناك مواد مسجلة وأفلام تعليمية ووسائط مختلفة ومسلسلات وبرامج حوارية متلفزة ومبثوثة أثيريًا ومواقع تعليمية وبوابة إلكترونية يُحال المعلم إليها لتطوير قدراته وتحسين ممارساته التدريسية وتطوير إجراءات التدريس لديه داخل قاعة التدريس وتزويده بمختلف المستجدات التربوية التي يحتاج إليها لتطوير قدراته ومهاراته في زمن سريع التحول شديد التغيير. ناصر بن محمد العُمري المخواة