يقبع العقل العربي تحت وطأة الإعلام الممنهج, الذي يعتمد أحادية الرأي أو المذهب الفكري الأوحد التبشير بقيم الحضارة الغربية العولمة وما أعنيه بالإعلام الممنهج هو تنسيق الجهود وترسيخ النشاطات وإبرازها لدفع المجتمع نحو وأد قيمه واستبدالها بالنموذج الغربي عن طريق قنوات العولمة الإعلامية. فبعد أن فشلت جهود \"الاستعمار\" في استقطاب الجمهور العريض من العرب عن طريق المستشرقين الأول, تسلق المقتاتون على الطيف الفكري والأدبي من المستغربين العرب؛ كي يقدموا أنفسهم للعقل العربي رواداً للفكر مستشرفين للمستقبل؟! وهنا علّ البعض يتساءل: \"لماذا على المثقف العربي أن يبقى مهمشاً إن لم يكن تواقاً لكل ما هو غربي؟! والجواب لمن يتساءل : إنه الاستنبات الفكري! (ما يسمى بالتأثير السلبي للعولمة) صراع فكري جسيم يعيشه العقل العربي حين يغرد الإعلام العربي خارج سرب أفكار ومبادئ وقيم، بل وتراث العقل الذي يخاطبه, ليغرق هذا العقل في بحر متلاطم الأطياف من الثقافة الدخيلة. ثقافة يعيشها كتسلية في أفلام الرعب والعشق الماجن والخيال الملحد فيصطدم بها واقع غير قابل للتطبيق في مجتمعه ذي الثقافة العربية المسلمة. فأي دور يقدمه الإعلام هنا؟ّ! حين تُكرّس جُلّ الجهود الإعلامية لجلد الذات عوضاً عن بناء العقل, وتُغيب الرموز الفكرية الحقيقية للإشادة بأخرى هلامية, ويُستشهد بأدب ساقط لإجلاء أدب ماجد, وتُنتقى قصص وشواهد لتعزيز فكر وافد, يغرق العقل العربي في متلاطم أمواج ما يقدمه الإعلام ما لم يحمل مشروعاً بديلاً !!.. مشروعاً إعلامياً فكرياً بارزاً يعي فيه أن حقيقة هويته الحضارية جزء لا يتجزأ من منظومة الأخلاق والقيم الإسلامية فيوظف طاقاته ليلبي حاجاته وينتقل من دائرة التأثر إلى دائرة التأثير. فلا تخضع مخيلته لعملية مكثفة من الاستنبات الفكري فينتهي إلى فكر بديل وافد كالليبرالية والعلمانية فينافح عنها ويقدمها في قالب إنساني كبديل حتمي لتغيير الواقع البئيس الذي تعيشه المجتمعات العربية في جوانب الحياة الإنسانية, ذلك الواقع الذي لا يُلام الفكر عليه بل الإدارة. فلقد جاء الدين الإسلامي الحنيف, لينهض بالعقل العربي من براثن الجاهلية والتشبث بالأساطير إلى عالمية الإنسان, ولم يمارس قط سياسة الإملاء الفكري، بل أوجد مساحات من الحرية في التأمل لأتباعه ﴿.. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ 42 الزمر، وحرية الاتباع لغير معتنقيه قال تعالى ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ 64 آل عمران. إن مخيلة وكامن الذهن البشري تستجيب سلباً أو إيجاباً لما يقدمه الإعلام, وهي دون شك مع كثرة التكرار تألف ما لم يكن مألوفاً من قبل. وهذا شعور يعرفه من امتهن الطب فبعد الأيام الأول العصيبة في مشرحة الكلية يصبح منظراً مألوفاً أن ُيمزق النسيج المتداخل مع العظم واللحم بعد أن كان منظراً مفزعاً لا يطاق. فكيف هو واقع العقل العربي إذن! مع كثرة وغزارة الإنتاج التغريبي باللغة العربية!؟ هل سيجد العقل العربي ذاته في صناعة التاريخ مساهماً في الحضارة البشرية أم من التوابع المقتاتة عليها؟! أم أنه سيغرق في أزمة البحث عن هوية بديلة! وهنا أتسائل, هل حالنا ببعيد من هذا؟ إن سياسة الإملاء الثقافي التي يمارسها الإعلام العربي الموجه قد أسهمت في دفع المفكرين العرب إلى هجرة الإنتاج الفكري الأصيل لعدم الاعتداد به في المحافل الإعلامية. وهنا أقف متسائلاً كم وكيف يتوه الدهماء من الناس باحثين عن هوية فكرية! فسياسة الإملاء هي أولى بذر التخلف وتعطيل العقل عن التفكير والانتقاد والتحليل والتساؤل, وهذا منهج ليس بغريب على بعض الحكومات العربية حين تكون حنجرة الانتقاد مبحوحة بسياط الجلاد وقيد المعتقل وعوز العيش, فإن المحصلة النهائية هي ذلك المتلقي مشوش الفكر ذو الضآلة المتناهية في مستوى الحرية الفكرية, فكيف لمخيلة تعيش ظروف كهذه أن تجد للإبداع طريقاً؟!! فهد أحمد عطيف أكاديمي سعودي باحث في لغويات الإعلام [email protected]