كل الدراسات والكتب التي صدرت عن تاريخ مدينة بريدة كلها تقريباً تنّصب على التاريخ السياسي والجغرافي والاقتصادي لهذه المدينة ، وكلها كتب تعتمد في النقل على بعضها ، حتى صارت متشابهة ، وكأنها كتاب واحد . ما عدا بعض الكتابات الشعبية والتي ينقصها المقدرة على التحليل ، والغوص في أعماق الحكايات والأشعار ، دون أن تقدم لنا فلسفة تحليلية ، وخاصة على آلية الحركة السكانية . أعني أنها كُتبت بطريقة رسمية ، دون الخوض والتحليل . وأنا أجد عذراً لهم . لأن التاريخ لابد أن يتطرق لأسماء و عائلات ، ولابد أن يتطرق للإيجابيات والسلبيات ، وهذه مشكلة نعانيها ليس عندنا فقط وإنما بكل الوطن العربي . وأذكر بهذه المناسبة حادثتين وقعتا ، واحدة في مسلسل \"طاش ما طاش\" عندما اعترضت إحدى القبائل على بعض الأحداث التي وقعت بالمسلسل والثانية بالأردن عندما قتل أحد زعماء القبائل بسبب الأحداث التي وقعت في مسلسل \"نمر العدوان\" هذه مشكلة يعانيها كُتّاب التاريخ ، ناهيك عن السلطة السياسية وعينها التي لا تغيب عن مراقبة ما يكتب ، هذه مشكلة عربية شاملة لا تخص بلداً دون الآخر وهناك أيضاً الرقابة الدينية التي هي أشدها . لذلك نشاهد الكُتاب عندما يكتبون التاريخ العربي أو الإسلامي تخرج هذه الكتابات وكأنها مبتورة ، وتترك في رأسك أسئلة كثيرة ترغب في طرحها على المؤلف . أنا هنا سأتطرّق لمدينة بريدة بطريقة تختلف نهائياً عن ما كُتب عنها وسأعالج الموضوع بطريقة أخرى غير المعتادة ، وسأتكلم عن الذكريات فقط ، دون التطرق إلى التاريخ ، هروباً مثل الآخرين ولو أنني أعرف الكثير والكثير ، سأتكلم عن تلك المدينة التي راحت ولم نعد نشاهدها إلا في مخيلتنا فقط ، أنها راحت كالسراب وبطريقة سريعة ، أسرع من البرق . تلك البلدة البدوية الصغيرة القوية في عزيمتها ، والتي خاضت التاريخ بكل ما يحمل في طياته ، حاربت فأنتصرت وهُزمت ، زرعت فأكلت وجاعت ، أشتغلت بالتجارة فكسبت وخسرت ، دُمرت ونهضت من تحت الأنقاض ، سُلبت وسلبت الآخرين ، مُرضت وشُفيت . وهاهي تمتد وتكبر كالأخطبوط ، لا يمكن لأحد أن يقف في طريقها . ذكرياتي التي سأسردها لكم في عدة حلقات ، هي ذكريات تحملها ستون سنة عشتها ، وأنا الآن أحملها في قلبي ، وكل ليلة صافية أستعرضها واحدةً واحدة مع القمر والنجوم ، ولا أريد لأحدٍ أن يطّلع عليها غيري خوفاً عليها من الضياع . ألتفت يمنة ويسره وعندما أتأكد أن لا أحد هناك أخرجها من حرزها الذي يسكن بقلبي ، وأستعرضها واحدةً تلو الأخرى أنا وصديقاتي النجوم ، وعندما أنتهي منها ألفها جيداً وأعيدها إلى قلبي ، وأرتجي النجوم أن لا تذكرها لأحد أبداً مهما كان . بريدة التي نراها الآن هي بريدة أخرى تختلف نهائياً عن تلك التي في قلبي ، تختلف في شكلها وفي طرقاتها وفي لغتها وحركتها وسكنتها ، أنها شيء آخر يختلف تماماً عن ما أعرفه عن بريدة التي أحملها ، إن بريدة التي أحملها هي بريدة (فطّيمة ولطيفه ومزنه وهيا وعاشه . ليست روان ومنال وأريج ولجين) ..وغيرها ، إن بريدة التي أحملها هي( عزيز وسليم ودحيم وكريم وبريه وعبيد) ، ليست .. معاذ ومهند وأمجد وعدنان وصهيب وراكان وغيرها . هذه البريدة الجديدة جاءت إلينا من وراء البحار من الأراضي الدافئة ، وأدخلها الدولار والعولمة التي غزت حتى الصحاري الجميلة التي تسبح مع الشمس في ظروف مناخية هادئة . أنا لست عنصرياً ! وإنما أعتبر جميع مدننا السعودية بنات جمل واحد، وليس لدي تمييزاً عنصرياً لمدينتي ، ولكن أعذروني \"أحُبها ياناس \" أحب هوائها وشمسها الفضية ، أحب نكهتها التي تجعل جسمي يهتز طرباً لذكرها ، أنني أعرفها وتعرفني أغضب منها أحياناً وتغضب مني ، أختلف معها في مواقع كثيرة وتختلف معي هي أيضاً في مواقع كثيرة ، ولكن الاختلاف لا يفسد للود قضية ، أنا وهي من طينة واحدة ، رضعت معي ورضعت معها ، وكلانا نتصارع على الحل هي تريد أن تختلف وتسبق أخواتها ، وأنا أرغب أن تبقى في مكانها ، هي تريد أن تتكلم لغة أخرى وأنا أريدها عشيقتي كما ولدت أول مرة ، أنا أريدها في ثوبها القديم ، وهي تريد أن تزور صالة عرض الأزياء ، هي تريد أن تذهب إلى الشمال وتعانق أبراج واشنطن ونيويورك ، وتريد أيضاً أن تتسوق في أسواق البورصة العالمية وأنا أريدها أن تبقى في مكانها أو تتجه جنوباً إلى الرمال الذهبية وتحافظ على أصلها وفصلها ، ومازال الصراع قائم حتى كتابة هذه الحروف . وفي النهاية سأطالب بتدويل القضية ورفعها إلى طاولات الأممالمتحدة وشكواي الوحيدة أعيدوا إليّ حبيبتي ، ولدي الوثائق والصكوك التي أحتفظ بها في قلبي والكفيلة بإعادتها إلى رمالها الأولى ، وتعود إليّ عشيقتي ونذهب معاً كالعادة ونسمر مع القمر والنجوم ، عذراً منكم أيها الأخوة عن هذا الإغراق في التأمل ، وأعدكم أنني سأكتب لكم عن أولى حلقات الذكريات في الموضوع القادم إن شاء الله . ودمتم ... موسى النقيدان