حينما أنهيت الشهادة الابتدائية من مدرسة «جبرة سعيد بن جبر» في حي جبرة العريق الموازي لحي دخنة الأشهر في الرياض، أخذني والدي رحمه الله صالح المصيبيح ومعي أخي سلمان الموازي لي تقريباً في العمر إلى معهد إمام الدعوة العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للتسجيل في الدراسة... وكان جارنا آنذاك الورع الفاضل عبدالعزيز بن شلهوب هو مدير المعهد... وحرصاً من الوالد في أن يكون تعليم أولاده تعليماً شرعياً فهو يواصل نهج والده وكتّابه المعروف بتعليم القرآن الكريم والقراءة والكتابة الذي لا يذكر تاريخ الرياض وبدايتها في التعليم إلا ويذكر هذا الكتّاب، فكانت بداية للفتى الصغير في خوض تجربة المعاهد العلمية التي تركز في مناهجها على الدين واللغة العربية، وتخلو كتبها من الصور ويكثف بها حفظ المتون كزاد المستقنع وألفية بن مالك والفرائض وكتب التوحيد والتقويم، وهو الاسم المعدل للجغرافيا، الذي لم يكن محبباً، ومن تجربة المدرسة الابتدائية التي أتذكر عندما كان يسألني أحد أين تدرس، كنت أقول اسم المدرسة وعبارة الترحيب، معتقداً باْن هذا هو اسم المدرسة، فأقول «أدرس في مدرسة سعيد بن جبير ترحب بكم»، وأنهيت الثانوية في معهد إمام الدعوة وباعتراف صريح لم أعرف مَنْ هو إمام الدعوة إلا في المرحلة الجامعية... وكان المعهد مليئاً بالذكريات الجميلة. كأني أرى المخلصين من المعلمين والمراقبين... مطلق وبن داود واللحيدان والعسعوس وآل شيخ والمهدي والعطيوي والمقحم والطريري والرسيني وابن مانع والتويجري والسلمان وغيرهم، ثم جاءت في المعهد فترة انفتاح المعاهد العلمية بإدخال مواد الرياضيات والجبر، فجاءت فترة المعلمين المتعاقدين من غير السعوديين الذين كان يطلب منهم تربية اللحية ولبس الثوب والغترة، فكنت أرى تذمرهم وقسوتهم علينا انتقاماً من هذا الفرض، وكان منظرهم يدعو للشفقة وكأنهم من يخرج في إعلانات الدعايات الآن من غير السعوديين... وكان هناك حدث كبير في المعهد إذ جاء احد المتعاقدين أول يوم بلباسه الغربي «البنطلون» والقميص فسمح له باْن يعمل حتى يشتري غداً الثوب والغترة... وأتذكر أن حالة هرج واستغراب حدثت في المعهد، إذ ظل الطلبة يلاحقونه بنظرات الاستغراب والضحك وينتظرون خروجه من فصله أو مروره في جنبات المعهد حتى منعت هذه الحالة تماماً... أسوق ذلك كمثال إذ أصروا على حالة التغير التي حدثت في أن نعيش في مكان تربوي له أسلوبه واحترامه، بينما كان في الجانب الآخر في دخنة تدور حركة الجرافات والحفريات تنبئ عن حركة عمران وتنمية وتحضر حدثت في تلك المنطقة وكل أنحاء الرياض... ذكريات المعهد بزملاء الدراسة ونشاط الإذاعة الصباحية والكتب المدرسية التي تخلو من الصور والأشكال والرسومات التي نراها بين أبناء الجيران والأقارب الذين يدرسون في التعليم العام المعتاد من قبل وزارة المعارف آنذاك. انتقلنا لكلية العلوم الاجتماعية وكانت الجامعة تعيش في أوج نشاطها وحيويتها مع مديرها آنذاك الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وكان تعاوني مع جريدة «الرياض» أثناء الدراسة الجامعية سبباً من تقوية علاقتي بالوالد الدكتور التركي، الذي كان لماحاً واعياً يدرك أهمية الإعلام في التغيير، فكان نصيبي العديد من أخبار الجامعة ومقابلات خاصة ومطولة معه... وشهدنا في تلك الفترة بداية إدخال اللغة الانكليزية في المعاهد والجامعات، وقل التركيز على المظاهر وبدأ الاعتناء بالجوهر، وابتعثت الجامعة طلائع مبتعثيها إلى أميركا مثل الدكتور السالم والدكتور النملة والدكتور الجوير والدكتور خليل الخليل والدكتور أحمد سيف الدين وآخرين... وبدأ النشاط الثقافي الرياضي يتوسع وكلفت من قبل عمادة شؤون الطلاب بالعمل منسقاً لكليتي بمكافأة شهرية، وكان عميد الكلية الوالد محمد عرفه حريصاً على بروز الكلية ومنافستها لقريناتها ووجدت التشجيع والدعم من عميد شؤون الطلاب الوالد صالح بن سعود آل علي ووكيلها خالد العجمي، وتم إحضار عدد من المدربين الرياضيين من خارج المملكة ومشرفي الأنشطة، وأقيمت دورات بين الكليات في بعض مناطق المملكة. أتذكر أجمل الذكريات في القصيم حيث التنافس كبيراً في مختلف الألعاب وإن كانت هناك مجاملة من الإخوة الوافدين لكلية الشريعة، وكان الحرص على اللبس الرياضي الطويل، واشتكى احد الطلبة لعميد شؤون الطلاب من أن طلبة كلية العلوم الاجتماعية يتساهلون في عدم لبس الطويل، وكان منهم مجموعة لا يستهان بها من طلبة المنح من إخواننا الأفارقة الذين بدأنا بالتدريج نفرض عليهم ذلك... وهذا ما جعلنا نحقق نتائج طيبة، إذ أقمنا لقاءً رياضياً مع جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وحققنا في الشوط الأول نتيجة جيدة، وأتذكر أن حواراً دار بيني وبين المهندس عبدالله الصغير كابتن جامعة البترول في أن أطلب من رئيس البعثة التخفيف عليهم لأنهم لم يجدوا ملابس طويلة مناسبة لهم فقال لي رئيس البعثة انسحب من المباراة... وبحمد الله فإن اللباس الرياضي هو السائد الآن ولله الحمد... ولهذا فالذكريات كثيرة عن هذه الجامعة العريقة التي تشهد الآن تطوراً في الرؤية والفهم وإدراك رسالتها لخدمة مجتمعها، وهذا لن يرضي البعض وهي سنة الحياة ولكن الصحيح هو الأصح من أدلة الكتاب والسنة، وإذ لم نعط كامل الثقة لرجل علم دين وفضل مثل سليمان أبا الخيل، الذي كان من خيرة المخلصين لدينهم ووطنهم والمحاربين للفكر الخارجي البذيء المتطرف، وكان من نجوم المناصحة وكتبه انتفع بها الكثير، فمن تكون له الثقة إذاً؟ وهو استطاع أن يفتح قلبه لجميع الأساتذة الكبار والصغار فالتف الجميع حوله، وهذه فرصة للبقية للاستفادة من فرص الكراسي العلمية ودعم البحوث وآخرها مكرمة الثاني وزير الداخلية بدعم معهده للبحوث ب 10 ملايين ريال وهي بشرى زفها مدير الجامعة قي افتتاح منتدى الشراكة المجتمعية، الذي عقد في الرياض أخيراً. لقد انتشر خريجو هذه الجامعة في معظم مجالات الحياة وكانوا الأبرز في الشريعة القضاء والاجتماعيات والثقافة والفكر والأدب والمسؤوليات الإدارية العليا والاقتصادية، وكانت إسهاماتهم بدرجة كبيرة في التميز والإبداع والعطاء الوطني المخلص... وهنا أجدها فرصة لكي يشكل مدير الجامعة تجمعاً علمياً وطنياً استشارياً للاستفادة من خريجي الجامعة في مواقعهم سواء من يعمل أو بعيداً عن أضواء العمل في أن يكون لهم إسهام في هذا الحراك العظيم، وكانت هناك لفتة في الحفل الذي أقيم أخيراً وهو حضور الطلبة الشباب وسعادتهم بالحفل فاندفعوا يصفقون بحماس فور انتهاء الحفل، وهي قضية خلافية تم استيعابها في الحفل للاتجاه في أساليب حياتنا إلى الجوهر وعمق الدين وتوجهاته وأسلوب المعاملة والجدية والإخلاص في العمل والبحث وجودة المخرجات بعيداً عن المظاهر والشكليات والمختلف به من الدين.سنوات بين المعلم الوافد ولباسه المفروض عليه وبين هذه القاعات الهائلة والمباني العظيمة والعقول المتفائلة الجادة المبتسمة التي نقلها موحد هذا الكيان الملك عبدالعزيز رحمه الله وأبناؤه من بعده في نقل هذا المجتمع بالأسلوب التدريجي المعتدل لفضاءات الإبداع والعلم والمعرفة، فكان الولاء وكان الحب وكان العطاء الذي تمثله هذه النهضة والحيوية والنشاط الذي تشهده جامعتي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. مستشار وزير الداخلية و كاتب سعودي.