تنتشر في هذه الفترة \"ظاهرة الإعجاز العلمي\" عبر تأسيس الجمعيات المخصصة لهذا الغرض، فأصبحت البرامج التي تدور حول هذا الحقل تملأ الفضاء، وسأعرض في هذه المقالة إلى جزء من تاريخ ظاهرة الربط بين \"العلم\" و \"المخترعات\" الحديثة، مع ربطها بمواقف رموز الإسلام من تلك الظاهرة، حيث أن مسألة كهذه لا تتحمل إلا البحث عن جذورها وعن سبب تكونها بهذه الصورة. يذكر بعض المؤرخين أن النزعة العلمية في التفسير برزت إبّان نضج حركة العلوم الكونية في قرن التأسيس وازدهار الترجمة وذلك في القرن الخامس الهجري؛ وهي في بداياتها كانت-بحسب محمد جابر الأنصاري- مجرد \"شكل من محاولات التوفيق بين الإسلام وبين ما ترجم من ثقافات أجنبية وما استحدث من علوم البيئة الإسلامية\" منذ تلك اللحظة برزت أحد أبرز الإشكاليات التي-بحسب الأنصاري أيضاً- مؤجّلة الحسم كحال الكثير من الإشكاليات الإسلامية- وربما كان من أبرز الإشكاليات التي أُجّل حسمها (موقف الدين من العلم). أما في سياق التراث فيظهر للباحث أن الغزالي أكثر من عمل على ترويج \"التفسير العلمي'' وهو ممن أسّسْ ووضع أسس التفسير العلمي للقرآن الكريم ويستدل الغزالي على فعله بقولٍ لابن مسعود: ''من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن'' ويُكسب الغزالي رأيه وضوحاً حين يقول في كتابه (إحياء علوم الدين) ''بل كل ما أشكل على النظّار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن رموز ودلالات عليه يختص أهل العلم بدركها''، أيّد الغزالي في ذلك الرأي السيوطي في كتاب ''الإتقان'' حيث أكد على أن ''الصنائع مذكورة في القرآن كالخياطة في قوله تعالى (وطفقا يخصفان) والحدادة في قولهآتوني زبر الحديد) والنجارة في قوله (واصنع الفلك بأعيننا)، ومن ثمّ أتى الفخر الرازي606ه صاحب (مفاتيح الغيب) المشتهر ب(التفسير الكبير) فأسقط كل ما استحدث من ثقافة علمية وفكرية على آيات القرآن الكريم حتى قيل عن تفسيره (لقد قال الفخر الرازي كل شيء في تفسيره إلا التفسير) ومن ثم تفجّرت العلوم وازداد الموفِّقون =(مدرسة التفسير العلمي) في تحوير المخترعات لتصبح من قبيل المنصوص عليها في الشريعة. في العصر الحديث برز جيل من المتأثرين بمدرسة الغزالي مثل البيضاوي691ه والقمّي النيسابوري 728ه والزركشي 794 والجلال السيوطي، وأبي الفضل المرسي، وغيرهم. ويعتبر الإمام الشاطبي من أوائل من أنكر هذا التوجه حيث ينفي في كتابه الشهير (الموافقات) دعوى ''احتواء النصوص للعلوم الكونية'' ويفند دعاوى من ''أضاف إلى القرآن علوم الأولين والآخرين'' ويقرر أن الشريعة نزلت على \"أميّين\" وينبني على هذا الفرض قواعد (أهمها أنها جارية على مذهب أهلها فكثير من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات والمنطق وعلم الحروف وهذا إذا عرضناه على ماتقدم -من كون الشريعة على مذهب أهلها-لم يصح) ا.ه كلام الشاطبي. وفي بداية القرن العشرين عاشت الصحافة المصرية سجالاً بين فريقين من العلماء في شأن (التفسير العلمي) الجديد في المرحلة الأخيرة أن الكثير ممن انتصر لل(تفسير العلمي)هم من طلاب العلوم الطبيعية، فجزء غير قليل من أنصار ذلك الاتجاه هم من الأطباء وعلماء الأحياء والفيزياء، والجزء القليل من علماء الشريعة سواء من جامعة الأزهر، أو من (جامعات شرعية أخرى). يذكر محمد جابر الأنصاري في كتابه الضخم والممتع (الفكر العربي وصراع الأضداد) أن الشيخ محمد عبده هو من استهل التفسير العلمي في العصر الحديث، وفي عام 1923ه بدأ الشيخ طنطاوي جوهري الأستاذ بكلية دار العلوم المصرية بإخراج تفسيره الذي ناهز [26] جزءاً، فسّر فيه القرآن تفسيراً علمياً استوعب بداخل مختلف المعارف المعاصرة من علمية وإنسانية بل حتى صحافية، وفي عام 1941م نجد محمد شلتوت يدحض حجج مفسري العلم بالدين حيث يصف تلك النظرية ب(الخاطئة لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف، فهي تعرّض القرآن للدوران مع العلوم في كل زمان ومكان والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير) كما عارض هذا الاتجاه مجموعة أخرى مثل أمين الخولي، ومحمد مصطفى المراغي، وعبد الحليم محمود، وعبد الله المشد، وأبو بكر ذكري، وسيد قطب، ويوسف القرضاوي ومحمود شاكر. ربما تكون المشكلة الأساسية في تذبذب رموز الإسلام بل وفي عجزهم عن صياغة موقف يوضح علاقة واضحة بين الدين والعلم، بعد قرن من الحرب بين فرقاء الرأي في (التفسير العلمي) فمحمد شلتوت حينما يؤكد على أن العلم متغيّر والشريعة ثابتة يقارب صياغة عقلانية،ذلك أنه يقصر موقف القرآن على (الإذن) و(الحث على التدبر والتعلّم والسير في الأرض وقراءة الكون) في حين يرى الآخرون أن القرآن محل (إعجاز بياني) وليس للإعجاز التقني. وفي العصر الحديث أصبح من المتعسّر حصر هواة (التفسير العلمي) ففي النت عشرات المواقع التي تعنى بهذا الجانب، وخصّصتْ الفضائيات برامج على قدر كبير من التقنية لإثبات أن المخترعات الحديثة كلها مذكورة في القرآن الكريم، بأداء وثوقي كبير، ويعتبر عبد المجيد الزنداني، ومصطفى محمود، وزغلول النجار، ويوسف مروة، أحد أبرز الأسماء في تاريخ التفسير العلمي، وفي رابطة العالم الإسلامي منظّمة علمية ذات شخصية اعتبارية تابعة للرابطة أنشئت عام 1404ه. وأصبح الكتّاب في التفسير العلمي كثراً مما يصعّب حصرهم، بل وتناسلوا إعلامياً ليحتلوا منابر إعلامية المصيبة أن الإعجاز العلمي مجرد عملية \"تجيير\" للاكتشاف الجديد ووضعه من نصيبنا بطرق متعددة، خاصة وأن استغلال سعة النص القرآني وقابليته للتأويل لصالح تججير الاكتشاف آلية غير موضوعية على الإطلاق. في هذ السياق ربما ناسب ذكر رأي الدكتور محمد جابر الأنصاري الذي يطالب بضبط هذا التفسير حتى لا يصبح اعتباطياً ولئلا يربط تفسير القرآن بكشوفات متغيّرة فيكتب: (محمد عبده صاحب نظرية الإعجاز العلمي والذي فسّر السماوات السبع بالسيارات السبع، ثم تبيّن فيما بعد أن الكشف العلمي قد تخطى هذا التفسير وأثبت عدم ملاءمته، ومن الطريف أن مصطفى محمود عاد سنة 1968 ففسّر السماوات السبع بألوان الطيف وهذا ما يدعو إلى التحفظ أمام هذه المطابقات التفصيلية) وأخيراً فإن تلك المسألة سُطّحت إلى حد مسيء، لأنها تحمل في مضمونها جوهراً خلافياً لم يحسم بعد وهو يضرب في العمق ويشرح القلق في الموقف من (العلم) والذي لم يناقش بشكل جاد من قبل المتخصصين في الشريعة حتى اليوم. فهد بن سليمان الشقيران [email protected]