أجد القلم ثقيلاً يواري خلفه حملاً أثقل كاهله وأتعبه وهو مع ذلك راغب وعازم الرحلة إلى ضفة أخرى وعالم آخر يختلط فيه الروحاني والحسي والوجداني، ومستجيباً لدموع صاحبه التي نادراً ما تسيل إلا على (لوعة غياب) . وهذه اللوعة تفطر الفؤاد وتطرحه متألماً وحزيناً على فقد غالي قضت به الأقدار، لكنه استجابة ضرورية ولازمة لأنها فقد (استثنائي) بالنسبة لصاحبها. القيم دائماً شامخة وهي في شموخها دائمة التجدد والتنوع، ولكن ولأول مرة أحس أن القيم تبكي لفقد صاحبها، وتتقبل التعازي وذلك لأنها وجدت رجلاً يتمثلها ويعلنها ويفتخر بها، وهذا الرجل ظل لابساً لثوب القيم في عسره ويسره، وفي منشطه ومكرهه، فهو ذلك الشاب الذي من صحراء نجد ومن واحاتها من قلب القصيم من الأرياف الغربية لبريده من (حويلان) ذهب ليبحث عن ذاته ويراقب نجوم الرزق في (أرض الكرم والخير) كما يسميها دائماً.. الكويت. ورغم إلحاح والده عليه بالبقاء آثر السفر والرحيل بكل عزم مع وعد لوالده (عبيد) بالزيارة والبر، ولم يتخلف عن وعده أبداً كما هي عادة الأوفياء، رحل ودعوات الوالد تظلله والدعوات عندما تظلل صاحبها فإنها حصن حصين ومفتاح لكل توفيق خصوصاً في زمن قلة الفرص وسوط الحاجة يلوح دائماً، وبعزيمة وإصرار استطاع هذا الشاب من صناعة معنى وكيان له عبر جدٍ وإجتها وأخلاق عالية عرفها ذلك الجيل وهو مع ذلك لم ينسى والده وبره.... يحدثني الشيخ سليمان الراجحي عن نفسه عندما سألته عن السر في ثروتك والتوفيق الذي تجده في تجارتك التي لا تخفى، أجابني ببساطة : بر الوالدين، فقد كنت أجمع المال لأعطيه والدي ليعطيني منه ما شاء، وهذا ما فعله (فهد) الذي تمثل فيه هذا الخلق، فقد كان يبعث لوالده ما إستطاع من المال والخير بل فاض إلى أقاربه حتى نهاية رحلته... التاجر النجدي القديم له حكاية تتشابه مع مثيلاتها وكلها مميزة ومشحونة بالقيم خصوصاً قيم العمل والعرق والتعب، فقد اشتغل سواق (تاكسي) في الكويت، ولم يأنف من العمل وهو إبن تميم!! وظل يدأب بكل إخلاص ويسابق الزمن ليكون أحد رموز التجارة مثل ما كان رمزاً في بسط اليد والكرم، فلم يخل غداءه وعشاءه من ضيف قادم إلى الكويت أو زائر للسلام أو مسكيناً يطلب (الفزعة) من أستاذها. يحدثني جدي عثمان الدبيبي الذي توفى وهو يدعو دائماً (لفهد) بأنه لن ينسى موقفه عند مرض عمي (إبراهيم) صديق الشيخ سلمان العودة في المعهد العلمي في بريده حيث أصيب عمي بمرض نفسي مما جعل جدي يبحث له عن علاج فذكروا له طبيباً في العراق فطلب من (فهد) أن يذهب به وبولده إلى العراق رغم صعوبة السفر في ذلك الزمن، هب (فهد) مرحباً كعادته ومستجيباً لدعوة جدي... رحل جدي وبقيت دعواته ترن في أذني (لفهد) وقد سألت مرة (فهداً) عن هذا الموقف، فقال : هذا توفيق من الله للخير فهو شيء في دمي!!. كنت وكنتم جميعاً أيها القراء الكرام نسمع وتحكى لنا قصص الكرم، لكنني لم أرى أحداً بكرم (فهد) بأمانة، وذلك أن تناول الغداء أو العشاء معه أو طلب حاجة منه يعتبره شرفاً وقلادة منه يعلقها الطالب عليه، أعلم أنكم تقولون : أن عاطفتك زادت فتوهمت وبالغت، أقول لكم : صدقوني هذا ما رايته من فهد. نادراً ما نجد الكرم عاماً لكل الطبقات، فالصغير والكبير والشريف والوضيع هم في ميزان كرم (فهد) هم واحد. رآه البعض في كل رمضان المتكرر في حياته كيف يقوم هو بنفسه ذلك التاجر النجدي بالتوزيع لمكان العمال والمعدمين إفطار رمضان بنفس بشوشة وأريحية. بل يصل الكرم إلى درجة لا يعرفها (إلا القليل) وهو (العتب) فقد كنت في زيارة إلى بلد (الخير والكرم) الكويت، ولم أزره في أوائل الأيام، وعلم أني بالكويت ولم آتيه فعاتبني عتاباً شديداً تمنيت أني لم أخبره أني بالكويت. يحدثني صاحب دين مالي (لفهد) بأنه ذهب إليه مرة لكي ينظره إلى أجل فخاف أن يطالبه بالسداد، فقال له فهد : هل تريد زيادة؟ من عسرك ليسرك ، وقع في يدي رسائل كان يبعثها إلى أخيه (موسى) في السعودية يوصيه ببعض الفقراء المحتاجين من العائلة وأحداً وأحداً . لوعة غياب (فهد) تخف كثيراً عندما أتذكر صنائع معروفه للناس والفقراء، وأتذكر خطاب خديجة أم المؤمنين للنبي – صلى الله عليه وسلم – عندما جاءها مرتعباً خائفاً عندما قالت له (كلا والله لا يخزيك الله أبدلاً وإنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر. ). في آخر أيام (فهد) أهداني بتواضع (بشتاً) حتى (أتكشخ) به حسب تعبيره.. لك الله يا (فهد) حتى أفراح و مسرات الناس تعنيك!! هل علمتم من هو فهد؟ إنه خالي فهد عبد الله عبد العزيز العناز أبو الفقراء والمساكين... وأطمئن فإبن أختك سوف يدعو لك بدعوات جده!! صالح الدبيبي