جاهلية القرون الأولى هل عادت من جديد، إذ التعصب الأعمى للقبيلة والعشيرة، والتغني بسطوتها وقوتها، والمفاخرة بشدتها وقسوتها، والمباهاة ببطشها وظلمها وغدرها، كما كان الأعرابي يتغنى شعراً بظلم قبيلته لغيرها من القبائل فيقول \" ونشرب إن وردنا الماء صفواًً **** ويشرب غيرنا كدراً وطيناً\"؟. إنها الجاهلية القديمة الجديدة التي أطلت برأسها الكئيب على واقعنا المرير بهيئة جديدة، أشد خطورة وقسوة وعنفاً، إذ الأفكار والمعتقدات كما هي، ولكن وسائل التعبير عنها وإقرارها في الواقع أخذت صوراً شتى لتجد طريقها المناسب نحو جسد المجتمع الذي أصابه الوهن ونازلته العلل، مثلما تفعل الفيروسات التي لا نراها بالعين المجردة عندما تصيب البدن الخاوي الضعيف إذا ما ضَعُفَ جدار المناعة فيه، فتصيبه بما تشاء من أمراض وعلل. ولقد كان أيسر طريق أمام هذه الجاهلية لتحقيق جل ما تصبو إليه هو: ما يسمى بالجماعات أو الفصائل أو ما شاكلهما من مسميات، إذ اتخذت منها قاعدة انطلاق فكرية وسلوكية من أجل الدعوة من جديد إلى التشرذم والتفرق والتشرنق والتقوقع و رفض الآخر، ولكن بطريقة احترافية مفادها أنك إن أردت استقطاب قلوب البشر إليك وأنت تبطن السياسة فحدثهم عن الدين، ليس من أجل الدين، ولكن رغبة في جعله مطية للوصول إلى ما تخفى من مآرب دنيوية. ولقد أعدت تلك الفرق لذاك الهدف فئة من الفصحاء والبلغاء قادرة على الإيهام والخداع بهدف تعبيد طريق إلى قلوب الناس لكسب مودتهم وتأييدهم ومن ثم خلق قاعدة جماهيرية وشعبية لهم بين الناس من خلال القفز على الحقائق والثوابت ومقررات الواقع، واللعب بأحلام البشر وأمانيهم في الحياة، وأنا هنا لا أتجنى على أحد بل أصف الصورة كما أراها بمنتهى التجرد والحيادية. لقد صورت هذه الجماعات والفصائل لعامة الناس أنها قد جاءت بقدر الله إلى الحياة حتى تبسط طريق النجاة والخلاص تحت أقدامهم الغائصة في أوحال الضنك والفقر والجهل والمعاصي من زمن بعيد، واستغلت في ذلك حالة الفراغ الفكري والديني التي يمر بها المجتمع ، فراحت تركض في هذا الفراغ الفسيح، فنسجت ما شاءت من أفكار، وشائعات، وشعارات تجنح بالناس نحو الخيال المفرط وتغرس في نفوسهم كراهية الواقع والعزلة عن الحياة. والنتيجة المترتبة على ذلك هي انبهار فريق بهذا العرض المخادع، فانساق طوعاً أو كرهاً إلى منطقة التعصب الأعمى لهذه الجماعة أو تلك، حتى صارت لديه وطناً وأهلاً وعشيرة يقاتل من أجلها أبيه و أخيه، وينتصر لها ظالمة كانت أو مظلومة، ينتصر لها من أهله وناسه ووطنه، ولو جافى ذلك واضح الحق وصريح الدين، فإن الحق والحقيقة ملك يمينهم، وهم خلفاء الله في الأرض، وهم جُنْده المخلصون ، وعباده الطائعون العاملون، وما سواهم عصاة، طغاة، أو هكذا يدَّعون. وعلى غرار هذا تناثرت فرق وطوائف وجماعات هنا وهناك بأفكار وأهداف مختلفة تحت شعارات مختلفة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وكل فرقة أو طائفة تتسابق مع الأخرى من أجل استقطاب أكبر عدد من الأشياع و الأنصار والمؤيدين، وهي تستخدم في ذلك المباح وغير المباح، والمشروع وغير المشروع من أجل الوصول إلى أهدافها، وهى في الغالب أهداف سياسية تبحث عن السلطة والمنصب والمقعد. وهنا تقع الطامة الكبرى، إذ يستغل الدين استغلالاً \"ميكافيللياً\" بحتاً تحت قاعدة \"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب\" والتي تتبلور على الأرض إلى \"الغاية تبرر الوسيلة\" وهنا فلا مانع من الكذب، ولا مانع من المزايدة والنصب السياسي باسم الدين، ولن يعجز بلغاء وفقهاء هذه الشراذم عن تحوير آيات القرآن الكريم، ولىِّ أعناق النصوص لياً خبيثاً خدمة لهذه الأغراض السياسية. ونتيجة لذلك تدور الصراعات الفكرية، والصراعات الدموية التي لا مبدأ لها ولا أخلاق من أجل إشباع شهوة في مكان تقع عليه أضواء الشهرة، وهنا ينبري أهل الفتوى العاملين تحت مظلة هذه الفرق - وهم بلا جدال أهل فصاحة وبيان - وذلك لتبرير الاقتتال الذي دار على الموائد المستديرة عبر القدح والسب والتراشق بالاتهامات، أو الذي دار على الأرض عبر موجات الرصاص الهادرة التي تسفك الدماء بحوراً بلا مانع ولا رادع . أيها الناس لقد استدار الزمان وجاءت إلينا جاهلية القرون الأولى في ثوبها الجديد الذي يخفى في طياته الخنجر، والبندقية، والمدفع، يد تقدم الورود ويد تستأصل زهرة الحياة، فاحذروا !!. لقد خلق الله الناس بتنوع من أجل الإثراء، والبناء، وتنوع العطاء، وأبى أولئك إلا أن يجعلونه خلاف دماء وأشلاء وإهلاك للحرث والنسل والله لا يحب الفساد. ---------- عبد القادر مصطفى عبد القادر