أما قبل : نشرت – في شهر رمضان الماضي – مقالاتٍ في هذه الصحيفة الكريمة قوبلت - من حيث الجملة - بثناء جميل، وتفاعل أجمل، لا أملك لمن أسداهما إلا الثناء، والدعاء، وشلالاتٍ من القلبِ تفيضُ ماءً وحباً...، ولأنّ موضوعات تلك المقالات ما هي إلا فاتحة لقول لم أقله بعد، واستهلال لنقاش لما تتضح معالمه كلُّها، فقد رأيت المشاركة هنا بعدد من المقالات في السياق الفكري المحلي؛ راجياً أن أجد في تعليقاتكم الكريمة ما يسدُّ ثغرتها، ويرمِّم بعض أحرفها المتجعِّدة . وأما بعد : فمن جملة الأمور التي أثارت انتباهي في الأشهر القليلة الماضية نقد عدد من المنتسبين إلى الإعلام - مقروءاً، ومسموعاً، ومرئياً – علماءَ الشريعة في هذه البلاد، وهو أمرٌ يستحقُّ الاهتمام لا على المستوى الفردي فحسب، ولكن على المستوى الجمعي والحضاري أيضاً، وإن شئتم التحديد أكثر وأكثر فعلى المستوى السياسي؛ لأنّ هذا النقد حمّال أوجه، ولأنه مستفزٌّ في بعض وجوهه، ومتأسس على نظرة غير واضحة لمرجعية المجتمع، وعاداته، وتقاليده، وقد بدا في تقدير كثيرين هجوماً على العلماء، ومحاولة لإسقاطهم رغم كونهم أصلاً في بنيته المرجعية...، ومما تجدر الإشارة إليه أنّ أغلب ما يقال عن هذا النقد ماهو إلا ردات فعل تضيع في الهواء، فهو ليس محكوماً – من حيث الجملة - بأساسات علمية، تضع للإنسان إطاراً عاماً للتعامل مع هذا النقد، وتحديداً عندما يكون واضحاً وجريئاً... لذا اسمحوا لي أن أكشف لكم – في هذه الأسطر القليلة - شيئاً من أشياء هذه الظاهرة على المستوى الإعلامي المقروء، وأتطلّع إلى أنْ أجد الوقتَ الكافي للكتابة عن تجليها على المستويين الآخرين: المسموع والمرئي ... 1- نقد العلماء في الصحافة السعودية / مدخل : تبدو الصحافة السعودية قناة من أهمِّ قنوات التعبير عن حال المجتمع السعودي، وأكثرها اتزاناً في التعبير، ومن يرصد واقع هذه الصحف يجدها قد انتقلت في الأعوام الخمسة الأخيرة من دائرة محدودة في الحرية إلى فضاء أكثر اتساعاً وحراكاً، وأخذ النقد فيها أبعاداً لم تكن معروفة من قبل، ولا مرضياً عنها سياسياً واجتماعياً... من جملة ما أفرزه هذا الانتقال ظاهرة نقد المؤسسات الدينية في السعودية، ولقد استجدّ سياسياً ما يعزِّز هذا النقد، ويمنحه دوافع أكبر كأحداث الحادي عشر من سبتمبر...، فبرزت مقالات، وأخبار، وتحقيقات، ولقاءات، تنتقد الجمعيات الخيرية، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، والنوادي الصيفية، وبرامج التوعية المدرسية، ومفردات المناهج، والمخيمات الدعوية، والمحاضرات الدينية، وأدوات الدعوة المعروفة: الأشرطة، المجلات، المطويات، المسابقات، بمحتوياتها كافة، دون استثناء...، وبلغة لا تتوارى أو تتهادى، ولقد بدا هذا النقد إيجابياً في وجه من وجوهه لكونه يستهدف مؤسَّسات من مؤسسات الدولة، ويطالب بتطوير أدواتها، وإصلاح أنظمتها، وهذا مطلب ديني ووطني وأخلاقي أيضاً...، لكنه من وجه آخر بدا سلبياً فأفرز مطالبات غالية لم تلتفت إليها الدولة – وهي الأكثر إحاطة بمجريات الأمور – كإلغاء حلقات تحفيظ القرآن، وإيقاف المراكز الصيفية، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك من مطالبات تجاوزها الزمن، ولم تعد تحفل بها الصحف، ولا قراؤها... ثمّ استمرّت كرة النقد بالتدحرج حتى وصلت مكاناً هو الأخطر من بين هذه الأمكنة، ألا وهو هيئة كبار العلماء، وذلك من خلال انتقاد أعضائها المكلفين رسمياً من قبل ولي الأمر بأسمائهم الصريحة، وبلغة لا يمكن أن تكون مقبولة مع من هم دونهم في المكانتين الاجتماعية والوظيفية . وصول كرة النقد إلى هذا المكان أدى إلى احتقان رهيب على المستوى الاجتماعي، يمكن أن تقاس درجته نسبياً من خلال تعليقات القراء على دوائره في مواقع الصحف المحلية، والمواقع الإلكترونية، والمنتديات الكبيرة..، ولقد شكّل هذا الاحتقان عدداً من الأسئلة المهمة، رأيت من الواجب عليّ متابعتها، والإجابة عن أهمِّها في زوايا هذه المقالة المتواضعة... وقبل أن أدخل هذه الظاهرة عليَّ أن أقرِّر قاعدتين مهمَّتين: الأولى : أنّ عملية النقد – من حيث هي – عملية سليمة، وما تنتجه من ظواهر هي ظواهر صحية بامتياز، بشرط أن يكون هذا النقد قائماً على أصله المعجمي: \" تمييز الجيّد من الرديء، والحقيقي من الزائف \" وفق قواعد مقرّرة، لا وفق أهواء فردانية، أو قواعد ليست مقرّرة في المرجعية التي تحرِّك المجتمع المستهدف بالانتقاد، وهذه القاعدة تحتاج إلى تأسيس خاص، يليق بأهميتها ليس هذا مجال عرضه...، لكن كما أنّ هناك فرقاً دقيقياً بين التهوّر والشجاعة، والعبقرية والجنون، والبخل والزهد، والذلة والتواضع، فإنّ هناك فرقاًَ بين الهجوم والنقد، يشبه – وأرجو ألا أكون مبالغاً - الفرق القائم بين الهدم والبناء!! الثانية : أنّ علماء الشريعة الإسلامية – مع جلالة قدرهم – ليسوا فوق النقد، وليسوا أكبر من المساءلة، ولو استظهرنا مكانتهم غاية الاستظهار؛ لوجدنا النقد في حقهم أكثر تعيُّناً منه في حقِّ غيرهم؛ لأنهم كبار، وعادة ما تكون أخطاء الكبار كبيرة مثلهم، ولذلك قيل: \" زلة العالِم – بالكسر – زلة للعالَم – بالفتح \" وهذا يستوجب المتابعة الدائمة من المجتمع لعلمائه، وتنبيههم – أبداً – إلى ما يجهلونه أو يتجاهلونه، وتذكيرهم بما نسوه أو تناسوه...، ومطالبتهم بالالتفات إلى حاجات المجتمع وأبنائه وبناته بدلاً من الخوض في مشكلات المجتمعات الأخرى، ودعوتهم إلى تغليب الحاضر على الماضي في خطاباتهم، والتفكير أكثر في مستقبل هذه الأمة، خاصة في ظلِّ هذه المخاطر التي تعصف بها من كل جانب...، ولنتذكّر أنّ هذا كله مما دعا إليه ديننا الكريم، ولا أدلُّ على ذلك من قوله – عليه الصلاة والسلام – \" الدين النصيحة ... لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ...\"، ومعلوم أنّ علماء الشريعة داخلون في جملة الأئمة كما نصّ على هذا كثير من العلماء. بتقرير هاتين القاعدتين نكون قد وقفنا في مكان وسط بين من غلا فقدّس العلماء وجعلهم رموزاً ملائكية لا تمسُّ حتى بأوراق الكلام، ومن جفا فأوقف همه على إسقاطهم واحداً واحداً تمهيداً لإسقاط مرجعيتهم التي ما فتئت تدير ذهنية المجتمع، وتوجِّه تفكيره وسلوكه انطلاقاً من كتاب الله وسنة رسوله – عليه الصلاة والسلام -... 2- قراءة الحالة : بعد تأملي عدداً لا بأس به من الأخبار، والتحقيقات، واللقاءات، والمقالات، في صحفنا السعودية، وجدت هناك صورتين لهذا النقد، سأوضحهما في الأسطر التالية : 2-1 الصورة الأولى : نقد العلماء نقداً ذاتياً، ومحاولة تذويب أكبر قدر من الصفات التي يخلعها عليهم المجتمع بأطيافه المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك وصف أحد الكتّاب عالماً معروفاً باللفّ والدوران، والتحريض، وتجاوز الأنظمة، واستخدام سلطته الوظيفية في نقد الآخرين... إلخ، علماً أنّ جميع هذه الصفات الذاتية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالفكرة التي يناقشها مع ذلك العالم !! ومن الأمثلة كذلك وصف كاتب آخر عالماً من علمائنا محدداً بالاسم بأنه القاتل، وأنه مصاب بهزة نفسية، وهما – كما ترون - صفتان متعلقتان بذات العالم وليس بفكرته، أو فتواه...!! بل إنّ الأمر قد بلغ منتهاه حين انتقد أحدهم شريحة كبيرة من العلماء لاستخدامهم اللقب العلمي (دكتور) في تقديم أنفسهم، وقابل بين هذه الصورة وصورة العلماء السابقين الذين يذكرون أسماءهم عارية من الألقاب، ومثل هذا النقد ذاتي صرف، ويحمل في طياته رسالة إلى القارئ توهمه بأنّ علماء اليوم – أو بعضاً منهم – ما هم إلا رموز بهرجة، ومهرجانات ألوان، وأن العلماء الحقيقيين قد ماتوا، ماتوا وتمّ دفنهم في غرف السماء !! وهذا مما لاشكّ فيه شكل من أشكال النقد الذاتي، الذي يشتغل على زعزعة الصورة النمطية الثابتة في عقول أبناء هذا المجتمع المفطوم على حبِّ العلماء وتقديرهم...، ثم إنه من جهة أخرى لا يخدم أياً من القضايا التي تعني هذا المجتمع على المستويين : الداخلي والخارجي. ومن أغرب أمثلة هذه الصورة ما كتبه أحد كتابنا المهمّين والفاعلين في صحيفة الوطن ذات العدد (2910) عن أحد المشايخ الذين يظهرون في برنامج رمضاني على قناة (M.B.C) حيث استرسل في وصف بشت الشيخ، وكيف أنه بشت ذو زري عريض مذهّب لا يليق بالصورة النمطية للشيخ الجليل...، وجميع ما ذكره الكاتب يحمل نقداً ذاتياً، ولا يفضي بشيء سوى كسر صورة العالم الزاهد - البعيد عن الدنيا وحاجاتها – في ذهنية المتلقي، متناسياً الحرية الشخصية التي كان يدعو إليها في بعض مقالاته...، ومن دلائل ذاتية هذه المقالة أنّ الكاتب قدم فكرته مقرونة بذات محددة، وهي ذات فضيلة الشيخ سلمان العودة؛ إذ إنه حدد القناة التي ظهر فيها هذا الشيخ وهي قناة (M.B.C) – كما أسلفنا - وأعاد اسم القناة مرات ثلاثاً، ثم زاد على ذلك أنّ حدّد للقارئين وقت عرض البرنامج بقوله: \" قبل الإفطار \"، وقد كان بإمكانه تمرير فكرته الكريمة دون هذا التحديد الذاتي المكشوف، والذي كان محلَّ تعجّب من الناس؛ لكونه صادراً عن كاتب عُرف بالموضوعية في كثير من مقالاته... ولو تأمل أحدنا أفراد هذه الفئة لوجدهم – من حيث الجملة – يتصفون بصفاتٍ متشابهة تبلغ ببعضهم حدّ الاندماج، وأبرز هذه الصفات التي سجّلتها ما يلي : أنّ عدداً كبيراً منهم مجهولو الحال والذات، أي أنهم أسماء بلا مسميات مدركة وحقيقية يمكن التعاطي معها باستحضار فضاءاتها المتعددة، وأخشى أن يكون خلف عدد من الأسماء المتعددة كاتب واحد كما كشف عن ذلك أحد العاملين في صحيفة سعودية بعد أن غادرها، إذ إنه بيّن أنّ الكاتبة (وفاء)، والكاتب (إسماعيل)، والدكتور (مصباح)، ما هم إلا كاتب واحد يعمل داخل أروقة الصحيفة، ومع أنني لم أتثبّت حتى هذه اللحظة من صحة زعمه فإنّ هذا أمر ليس بعيداً، خاصة في الظرف الآني. أنّ عدداً لا بأس به من أفراد هذه الفئة كانوا متطرفين يوماً ما، ثم انتقلوا من ضلالهم إلى ضلال آخر لا يقل قبحاً عنه، وجميع المتصفين بهذه الصفة كانوا ينظرون من قبل إلى علمائنا نظرة ساخطة، وكما كانوا يصفونهم من قبل في مجالسهم بحبِّ الدنيا وكراهية الموت، فإنهم اليوم يصفونهم على صفحات الصحف بكره الدنيا وحبّ الموت...، هم إذن انطلقوا من زاوية يحذر منها العلماء (الغلو) إلى زاوية أخرى يحذرون منها (الجفاء)، ومثل هؤلاء لا يجوز أن نستدبر تاريخهم مهما رموا به الآخرين. أنّ عدداً كبيراً من أفراد هذه الفئة ليسوا أكاديميين ولذلك يبدو طرحهم بدائيا ومضحكاً في الآن ذاته، ولا تجد في مقالاتهم بعداً فكرياً عميقاً، ولا ترابطاً مشوِّقا، ويكتبون – عادة - بلغة قاسية ذات بعد مادي محدد، مثل : (الهرطقة)، (الرجعيين)، (الظلاميين)، (الوعاظ)، (القاعديين)، (الطالبانيين)، (الأغبياء)، (الماضويين)،...إلخ، والغريب في الأمر أنّ هذه الصفات ترد في معرض نقدهم الإرهابيين وفي معرض نقدهم العلماء، مما يشي بأنهم ينظرون إلى الفئتين بعين واحدة، وهذا - إضافة إلى خلله المنهجي – مؤشر على حجم الخطورة التي أعبر عنها في هذه المقالة المتواضعة. [وسيأتي لا حقاً كيف يجب أن نتعامل مع هذه الفئة تحديداً] 2-2 الصورة الثانية : نقد العلماء نقداً موضوعياً، أي أنه نقد يتعاطى مع المنتج وليس مع الذات، يناقش الأفكار دون التطرّق إلى ذوات أصحابها، ومثل هذا النقد مهم وفاعل، ويجب على العلماء تشجيعه، والإفادة منه، كما يجب على الناس من ورائهم أن يتعاملوا معه بهدوء، وأن يتلقوه بالقبول دون النظر إلى ذات الكاتب، والهالة التصنيفية التي تحيط به، ودون التأثر بتاريخه مهما بدا بعيداً عن الصفاء والنقاء...، وليكن مستندنا في ذلك\" الحكمة ضالة المؤمن \"، وفي أسوأ الأحوال – إن شاء بعضكم - \"صدقك وهو كذوب \"، ولنعِ أنّ من نعم الله على المرء أن يرزقه من يجلي له عيوبه عن حبّ أو عن حسد؛ ليجتنبها، وليتطهر من آثامها في الدنيا قبل الآخرة، وفي هذا السياق يجري قول الشاعر: عداتي لهم فضل عليّ ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا ومن الأمثلة على صورة هذا النقد ما كتبه أستاذي الكريم الدكتور حمزة بن قبلان المزيني) في صحيفة الوطن ذات العدد (2904) الصادرة في 11 سبتمبر 2008م بعنوان: (الشدة مع المخالف)، حيث انتقد فيها تصريحاًَ لفضيلة الشيخ (عبد الله بن منيع)، وهو في جملته انتقاد في مكانه، يدور مع الموضوع دون أن يتعرض للذات، بل إنني أذهب إلى أنّ هذه المقالة أعطت الشيخ (ابن منيع) وبعض علمائنا مكانتهم التي تليق بهم، وإن حاول بعضهم – هداه الله – التشكيك في مقصديتها، ونيّات كاتبها، اعتماداً على وصفه الشائع بأنه كاتب ليبرالي، يقول الدكتور حمزة المزيني في تلك المقالة عن الشيخ المنيع: \" ومما يدعو إلى استنكار إطلاق هذه الأوصاف على بعض المسلمين - وأكثرهم سعوديون - صدورها من الشيخ عبد الله بن منيع الذي عُرف بدماثة خُلقه وعفاف لسانه عن مثل هذه الألفاظ التحقيرية. ومن المؤلم أنّ مثل هذه الشدة في التعامل مع المخالف في الرأي صارت كأنها عادة لازمة لبعض علمائنا الكبار حين يردُّون على بعض ما يُنشر في الصحف أو حين يصرِّحون لوسائل الإعلام عن بعض المسائل المختلف فيها \". وفي المقالة ذاتها يعرض الدكتور المزيني لأحد خطابات سماحة المفتي ويقول : \" وهذا الاتهام القاسي ب \" قلة الإيمان \" لا يمكن وصفه إلا أنه خروج عن المألوف في خطاب سماحة المفتي الذي عرف بلطف العبارة وحسن التعبير في مواجهة الآراء المخالفة، خاصة تلك التي لا تمسُّ العقيدة وتتعلق بقضايا فقهية وعلمية يمكن أن يتسع الصدر لسماع ما يخالفها \" فهذان المقتطفان يدلان على أنّ الفكرة هي التي توجِّه الكاتب وليس الموقف من الذات المنتقدة كما هو الحال في عدد من المقالات، وهذه المقالة تجري في سياق المقالة الأجمل التي نشرها الدكتور المزيني في صحيفة الوطن بعنوان: (أنتم قدوتنا) في 10 أبريل 2008م . ولذا كان من الواجب علينا أن نتلقَّ هذه المقالة بالقبول، أو أن نأخذها مأخذ الجدّ حتى وإن اختلفنا معها كلياً أو جزئياً، ولن نستطيع فعل هذا ما لم نتخلّص مما استقرَّ في أذهاننا عن كاتبها وتوجهه الفكري... ومن الأمثلة على ذلك - أيضاً - ما كتبه الأستاذ (عبد الله بن ناصر الفوزان) في صحيفة الوطن ذات العدد (2906) الصادرة في 13 سبتمبر 2008م تحت عنوان : (هل يتفق هذا مع دور سماحة المفتي؟)، فتلك المقالة تنتقد تصريحاً لسماحة المفتي، لكنه انتقاد موضوعي، لا يمس الذات، ولا يسقطها، بل إنه يساهم في تعزيز دور المفتي في المجتمع، ويقدم لسماحته الصورة التي يرغب الكثيرون في رؤيته فيها...، يقول الكاتب : \" وقد كان أصحاب السماحة الذين تعاقبوا على هذا المنصب هم كذلك مثالاً للسماحة، ابتداءً بالشيخ محمد بن إبراهيم ومروراً بالشيخ عبد العزيز بن باز - رحمهما الله - وانتهاء بالمفتي الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ وهبه الله الصحة والعمر المديد، الذي تميز بخصلة السماحة في أحاديثه وفتاواه كما بدا لي من خلال متابعتي لنشاطه، إذ كنت أجده من خيرة من اتصف بالسماحة بكل ما فيها من رفق ووسطية وحنان وعدم تضييق على الناس. ولأن (الشرهة) في العادة تلحق بالأخيار الأبرار أكثر مما تلحق بغيرهم عندما يحصل منهم مواقف لافتة للنظر، قد تبدو وكأنها خروج عن الخط المعتاد، فقد شعرت بالعتب سابقاً على سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز عندما انتقد بشكل عنيف شديد القسوة... \". والأمثلة على هذا النوع من النقد كثيرة ولله الحمد، ولا أجد حرجاً في الاستزادة منها، والصدور عنها أيضاً. وإذا ما تأملنا حال أصحاب هذا الصورة النقدية وجدنا لهم مجموعة من الصفات، من أهمِّها : أنهم معروفون على المستوى المحلي بذواتهم وأحوالهم، ويمتلكون تاريخاً علمياً يخوِّلهم لأنْ ينتقدوا الآخرين بموضوعية وإنصاف. أنهم – من حيث الجملة – كبار في السنّ، وللتجربة العميقة دور في تشكيل مواقفهم وانتقاداتهم، واختيار الطريقة التي يعبرون بها أيضاً. أنهم – من حيث الجملة – أكاديميون، أي أنهم حملة شهادات عليا، لذلك تظهر في مقالاتهم منهجية محددة، وثمّة تسلسل علمي ينتظم أفكارهم في المقالة الواحدة، وفي مقالاتهم كلها... إلخ. 3- موقفنا من هذه الظاهرة : من الواجب على كلِّ أحد منا، بل على كلّ صادق في تعامله مع الله والناس، وعلى كل وطني أصيل، أن يكون له موقف من هذه الظاهرة – بل المشكلة -، وأن يساهم في علاجها بطريقة حضارية واعية، وباستحضار عقلي لا وجداني، وبرغبة صادقة في تجاوز هذا الظرف المجخي بأقلّ نسبة من الخسارة على مستوى القيم والمبادئ، وعلى مستوى علاقة بعضنا ببعض في هذه البلاد، ومن باب المساهمة أضع بين يدي قرائي الكرام في هذه الصحيفة عدداً من المقترحات، أرجو أن تكون مفيدة وعملية : - يجب أن نؤمن إيماناً حقيقياً في الآفاق وفي أنفسنا أنه ليس هناك أحد فوق النقد والمساءلة، وليس هناك أحد يمتلك الصواب مطلقاً ولا الخطأ مطلقاً، وليس هناك عالم يرقى إلى مستوى النصّ بحيث لا يأتيه باطل من بين يديه ومن خلفه...، وهذا الإيمان يجب أن يكون عملياً؛ نفرِّق به بين ناقد يلمز الذات وآخر يغسل الأفكار، وعلينا كذلك أن نربي ناشئتنا على مثل هذا المعتقد، لكيلا نورِّث مستقبل الأمة أناساً تجمعهم الطبلة ويفرِّقهم العصا. - يجب علينا كذلك أن نتعامل مع الناقد مفصولاً عن سياقه الفكري، وإلا كيف نحقِّق \"الحكمة ضالة المؤمن \"، فحين يقدم كاتب على نقد عالم من علمائنا نقداً موضوعياً، علينا أنّ نتقبل نقده ونستثمره إن كان مؤصّلاً، وله حظ من النظر – بحسب المجال الذي يحدده النقد نفسه -، وإن كان نقده في غير مكانه، أو كان ضعيفاً من حيث الحيثيات والتأملات فلا أقلّ من أن نشكر للكاتب اهتمامه، ونناقش حيثياته بعيداً عن ذاته، ولنحشرْه إن شئنا في جملة المجتهدين الذين يؤجرون إن أصابوا وإن أخطأوا . - وفيما يتعلق بالنقاد الذين يستهدفون ذوات علمائنا أدعو – صادقاً – إلى تجاوزهم، وعدم الدخول معهم في نقاش مطلقاً، لأنني اكتشفت من خلال متابعة تعليقات القراء على نقدهم من خلال الصحف الورقية أو في مواقعها على الشبكة أن عدداً كبيراً من الذين يروّجون للمقالة وكاتبها هم من الرافضين لهذا النقد، وسأضرب لكم مثالاً واحداً على صدقية هذا القول: حين نشر الكاتب مقالة عن الشيخ اللابس بشتاً ذا زري مذهّب أقدم الكثيرون على التعليق على هذه المقالة، وحصلت المقالة بموجب تعليقاتهم على المركز الأول في المقالات الأكثر قراءة - وربما تعليقاً وطباعة - على موقع صحيفة الوطن، وباستعراض جملة التعليقات التي رفعت من شأن هذه المقالة، وساهمت في توسيع رقعتها، وجدت أنّ نسبة الرافضين حتى لحظة إغلاق التعليقات 90 % تقريباً، في حين تقاسم المؤيدون النسبة الضئيلة المتبقية !! تساءلوا معي – أعزائي - : ماذا لو أنّ هؤلاء الرافضين تجاوزا هذه المقالة، ولم يعلقوا عليها بشيء من التعليق، هل ستحصد هذه المراكز المتقدمة في موقع الصحيفة ؟! وهل ستحصل على ثلاثة خطوط عريضة في واجهة الصحيفة ؟! حتماً لا !! إذن نحن أعزائي الداعمون الحقيقيون للنقاد الذاتيين، ولا يخالطني شك في أنّ أكثرهم يبحث عن الأضواء والضوضاء، ومتى وجد الطريق إليها مسدوداً في التعرّض لذوات العلماء سيبحث عنها في مجال آخر كأنْ يكون ناقداً موسيقياً، أو حكواتياً على باب مقهى، فتاريخ العرب مع الصحافة أثبت أنّ من يستهدف الذات لا يملك مشروعاً، وأنّ من يصرخ لا يملك شيئاً يقوله. هذه أعزائي ملحوظة عجلى أعتذر عما فيها من نقص، وأتطلع – صادقا – إلى إضافاتكم، وتعليقاتكم... ودمتم للصباحات صباحات ... خالد بن أحمد الرفاعي قسم الأدب / كلية اللغة العربية بالرياض [email protected]