كلما بلغت بالمرء المناصب، واقتربت من بابه الألسنة الرواسب، والأيدي الغواصب، كلما كان بعيدا عن الحق فألحق لنفسه بغض الناس و تقرب المنافقين ، فإن فعل ذلك فقد استعدى الكل حتى منافقيه لأنهم أصحاب مصالح وولائم وبطون لاتشبع وعقول لاتفقه، ما إن يجدوا غيره حتى يتركوه بل ويتفنون في الانتقام منه بعد الخلاص من المصلحة وهذه يدركها المسؤول القادم فيستفيد منهم ثم يغير عليهم ويتخذ له بطانة سوء أو خير غيرهم ، وهذه مصيبة بل وباء يصعب علاجه بل هو قطار متعطل على سكة ، يشل التنمية والتطوير ،ولا يبارك لهما أمرا ولا تجده منتجا بعد التوثيق والإعلام والكذب إلا لما كان تافها لايحقق للناس المصلحة ولا يفيد غير المسؤول لينال تصفيق حاشيته فيعيش الزهو، بل يحس أن المنصب قد فصِّل له تفصيلا، فيكره كل ناصح ويمتعض من كل صادق ويعادي كل ناجح، لأن بناءه هش وتفكيره ضيق وهذا هو الداء الذي نعرفه جميعا ولم نتفق على علاجه أو نبحث فيه كثيرا، فلم أكن أتخيل أن أجد أناسا بهذا التفكير الجبان والخنوع والذل المعيب وخصوصا من أناس لهم مكانتهم في المجتمع، فلقد كنت يوما في مكان لأمر ما أستمع إلى أحد المتسولين الأغنياء \"الأكارم\" يطلب من غني ذي منصب أمرا فيقول له أحد من هم عنده: \"عمرك من عمر طويل العمر\" ، فيقول: \"صدقت ... اللهم طول في عمر فلان!!\"، لابأس بالدعاء ولابأس بالخير واستحضاره لكن ليس بهذه الطريقة المهينة للنفس، ثم يقبل الأيدي والأرجل بشكل مهين، ومازالت تلك الصورة لأحد من أعطي خيرا كثيرا وهو يتسلى بالصدقات ليس حبا في الخير كما ظهر لي والله أعلم بالنيات، لكن حبا في إذلال الناس والناس يتهافتون عليه من كل صوب وهو يوقف سيارته أمام المارة ويوزع المال بعد انتظار ومشقة منهم ... تصوروا.. ثمن الإهانة فقط خمسون ريالا!! وليتها إعطاء و صراخ كما يفعل البعض ،بل مع الصراخ ضرب وحرمان، وما ضحكت إلا من موقف أحد من أوكل توزيع المال وهو يهين الناس كأنه صاحب المال وهو ليس إلا عاملا عليه فيالهذا الداء ويالذلة البسطاء بل المتعلمين وقد يكبر إلى غيرهم، أما الموقف الآخر فهو لأحد من منع الناس حقوقها فلما وجد مسؤولا كبيرا يريد زيارته وأدرك أنه متورط بالناس ،نصحه شيطانه أن ينشر في الناس خبرا أن هناك خيرا للجميع ،حيث أن المسؤول الكبير يريد أن يرى المستفيدين ولدى الصغير مشاريع سرقة جديدة، فجاءه الناس يريدون خيرا فكان المسؤول الكبير يرى حب الناس له وحضورهم لأجل المسؤول الصغير وقدد صور له المسؤول الصغير مطالبا ليست لهم بقدر ماهي له ،وهم ماأتوا إلا طلبا لسد حاجاتهم، فكلف ذلك كثيرا من الناس عناء المسير وعناء البحث عن سيارة يسيرون بها ،فلما انتهى المسؤول الكبير من الطعام الذي أعد له... ولهم !!!، وركب سيارته بدأ الناس يتنبهون إلى الخدعة فقاموا وهتفوا ولكن هيهات، فالمسؤول قد رحل عنهم وخيره للماكر ارتحل ولابد من مهدئ للعامة كعادة مسؤولينا... الخير جاي!! ومازالوا إلى الآن ينتظرون ذلك الخير بل والحاجة والذل تمدهم مدا، أما الأمر الذي جعلني مذهولا ومازلت غير مدرك هل كنت حينها أحلم أم لا؟ لقد كنت أنتظر مسؤولا لأدخل عليه طبعا لم يكن ترددي على المسؤولين إلا طلبا لحقي فحسب لكني تعلمت الكثير من تلك المسائل، المهم أنه وبعد الظهر تمكنت ومن معي من زيارة المسؤول، فذاك يعطيه ورقة من مسؤول كبير ليسير له معاملته وبلا حياء يفصح عنها، وآخر وغيره، ثم لما جاء دوري بعد أن أنهيت لعبة الكراسي حيث كنا مصطفين بجوار بعضنا البعض وكلما تحرك أحدنا أخذ مكانه الآخر على تلك الأرائك ليصل إلى ذلك المسؤول في منظر من الذل ولاحول ولاقوة إلا بالله، المهم بعد أن أخذت مطلبي ،خرجت وأنا أقرأ الورقة، فإذ بها عادية جدا فحاولت الرجوع ، فقال لي سكرتير المسؤول، \"إنت صاحي؟ كفاية مرة واحدة\" كأنه يمن علي منا وحسبنا الله ونعم الوكيل في تلك الدرجات من المهانة، عموما حاولت وتمكنت بطريقتي ولكن سأعترف أني لم أجن شيئا أيضا!!، المهم أنه في كل مرة أجدني لا أحصل على شيء وأناس يقدمون الحد الأدنى ولكنهم أصحاب \"واو\" فيحصلون على التكريم وكل شيء وأبشركم أنه قد أتى أقوى من الواسطة \" الراء\" ومن بحث عنها عرفها فالبلاء يزداد والناس تعيش ظلما أشد والمطبلون يحاولون التخدير بأن فلانا طيب القلب ولكن موظفيه لاخير فيهم ولولا أنه أملى عليهم مايريد لما رأيتهم لاخير فيهم ،فهم كما أمر، إننا لا نريد شيئا أقل من حقوقنا لكن حقوقنا لن تأتي وهم موجودون أبدا. هذا الأمر دفعني للبحث عن معنى ذلك في الإسلام؟ هل من الإسلام الذل والمهانة؟ أليس من العار على المرء أن يهين نفسه ؟ ثم لماذا وما أصل ذلك الأمر لم أسمع أو أقرا أنه كان في عهد الخلفاء الراشدين أو أخيار الخلفاء والعلماء والمسؤولين الأمناء مثل هذا الأمر أبدا ولم يكن للمهانة معنى أولا لقربهم من أيام النبوة وصفاء أنفسهم حينها، ولكني وجدته أزمنة ضعف الخلافة وهذا الأمر إن رفعناه إلى شأن الخلافة لقوتها فكيف سيكون حاله إن كان المسؤول أصغر من خليفة؟ يقول محمد الخضر حسين، أحد شيوخ الأزهر السابقين في كتابه (الحرية في الإسلام) : \"إذا أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد، نزلت من شامخ عزها لامحالة وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء إذ لاغنى للحكومة عن رجال تستضيء بآرائهم في مشكلاتها و آخرين تثق بكفاءتهم وعدالتهم إذا فوضت إلى عهدتهم بعض مهماتها. والأرض التي اندرست (أهينت) فيها أطلال الحرية إنما تأوي الضعفاء والسفلة ولاتنبت العظماء من الرجال إلا في القليل ،قال صاحب لامية العرب: ولكن نفسا حرة لاتقيم بي *** على الضيم إلا ريثما أتحول فلاجرم أن تتألف أعضاء الحكومة وأعوانها من أناس يخادعونها ولايبذلون له النصيحة في أعمالهم وآخرين مقرنين في أصفاد الجهالة يديرون أمورها على حد ماتدركه أبصارهم وهذا هو السبب الوحيد لسقوط الأمة فلا تلبث أن تبتلعها دولة أخرى وتجعلها في قبضة قهرها وذلك جزاء الظالمين\". من ذلك تتضح الصورة الجلية للفساد في حكومة ما وعاقبته فكيف بأقل كالوزارة أو المؤسسة أو المنشأة الصغيرة؟ إن أول طريق لبناء تلك المنشأة إلى تلك الدولة أن يوجد أناس قادرون على الحديث بكل حرية والنقد بكل أريحية حتى تتضح الصورة ويماط اللثام عن الفساد والظلم ،ولكن بطريقة بعيدة عن التعدي والهجوم وسيء الخلق وخبث المقصد فالكلمة الطيبة صدقة ويتحقق باللين مالايتحقق بالقسوة والغلظة، فبالله عليكم ماذا ستجد من المطبلين والمنافقين غير ضياع المنشأة وزوال الهيبة والعداء والاحتقان. اقرأ هذا البيت وانظر هل يوجد مثله؟ إني مرضت فلم يعدني واحد *** منكم ويمرض كلبكم فأعود فسمي \"عائد الكلب\" وآخر يكتب كتابا فيقول عن نفسه : \" مقبل أعتابكم\" أو \"المتشرف بخدمتكم\" وغيرها من كلمات الخنوع والخضوع ، فإذا أتى يوم شديد البأس فهل هذا ومن على شاكلته سيصنعون شيئا أم سيتخفون حتى يقبلون الأرجل الأخرى القوية؟ صحيح أن لهم كلمات مدوية وصراخا مرعبا لكن كيف سيكون فعلهم على الظالمين؟ إن العصافير لما قام قائمها * * * توهمت أنها صارت شواهينا ساسأل كل عاقل يقرأ مقالي: مالحل إن سدت كل الأبواب؟ هل ننتظرهم حتى يأذنوا لنا أم نستخدم كل الوسائل السلمية ونواجه الظالمين بكل قوتنا؟ أترك لكم الإجابة!! بل أجد البعض سيرد علي بأن الوسائل غير السلمية هي الحل الأكثر فعالية في مواجهة كل ظالم!! إن علينا أن ندرك أننا جميعا نخدم ونبني بلادنا ويجب أن ندافع عنها دفاعا عن ديننا وحبا في العزة والرجولة والكرامة وأن نطوي فكرة الاستجداء والخنوع ونطالب ونلين القول بكل عزة واحترام فليس من سبيل لتحقيق الخير والخير ونيل الشرف إلا بهذا الطريق أما الطرق الأخرى وانتظار القافلة فهو عيب ماوجدناه في الصحابة والسابقين الشرفاء الذين كانوا دوما في الصف الأول وكانوا لايقبلون بغير الرجولة والشجاعة رغم أن التاريخ قد يحاول تجاهلهم لكنهم لن يتجاهلهم على الدوام. على الكل أن يعمل وقد يضعف وقد يخطط بذكاء وقد يسهم ولو بالقدر اليسير جدا أو يغامر لكنه يحقق أمرا أو يسهم فيه وهذا هو الصواب فآحاد المسلمين كالذرة في حال ضعفها ما إن تغار على الإسلام أو تستشعر العزة إلا وتجدها قد انشطرت فكونت طاقة هائلة جدا يستنكرها من لاعلم له بها، فلا للخضوع ولا للذلة ولا للمهانة بل عزة وكرامة وعمل وجد وبناء ووقوف في وجه الظالمين و صنع جديد فالقوي بالحق فقط هو الذي يحترمه الناس لا المتجبر ولا الجبان فالأول يخافونه والثاني لا يرونه شيئا أما القوي بالحق فإنهم يدركون صدقه ولايهابه ويكرهه إلا الفاسدون والظالمون، وختاما أقول :\"إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم\". أحمد المتحمي