حوار بين صلاح الدين وبوش رأيت فيما يرى اليقظ خير اللهم اجعله خير صلاح الدين جالساً فوق سيف قمة الكثيب الرملي في نفود الربع الخالي من الاستعمار ومعه غمده. وضع يده اليسرى على أعلاه ثم أسند رأسه وجعل يخطط بيده اليمنى على التراب. فجأة اخترق سمعه رجل يلوح بيده مبتسماً: \"هلو هلو صلاح\", نظر إليه صلاح ونظر نظرة أخرى إلى الغمد الأجوف ليزداد حسرة, وتمتم في نفسه: \"ما أثقل روحه!\". صعد بوش بخطى عميقة إلى رأس الكثيب , وجلس بجوار صلاح. ساد الصمت قليلاً, رفع صلاح الدين ناظره كأنه ينظر للحسرة تتمثل أمامه في الأفق. سأله بوش \"لماذا أنت مهموم؟\" قال صلاح الدين بعدما لفظ أنة ملأت أصداء المعمورة: \"حال الأمة يشغلني كثيراً, شبابها بدون هدف, وإن وجد الهدف تجده قشريا, أو يكون نوعاً من الطموح غير معقول الوقوع, أو تجده واحدياً لا يتكامل مع غيره كالعنصر الأولي, وهيهات أن تبني صناعة بدون مركبات, كما أنه من الصعوبة بمكان أن تنهض حضارة بدون تكامل عمل أفرادها أو ما يسمى بالعمل المؤسسي\". يضع صلاح إصبعه على الأرض, ويشكل نقطة ثم يخط منها خطاً مستقيماً ويقف ثم يشكل نقطة في نهايته, ثم يقول: \"تقول الرياضيات أن أقصر خط بين نقطتين هو خط مستقيم\". بوش: \"وأين المشكلة؟\" صلاح (بصوت اخشوشن من شدة التعطش للوضوح): \"الشباب المسلم غالبيتهم ليس لهم نقطة يريدون الوصول إليها, ليس لهم خارطة طريق, يسلكون طريقاً غير واضحة المعالم, متعرجة الأفكار, طريقاً سريعة الارتداد إلى البداية\". بوش يضحك بطريقة تجعلك تشعر بأن هناك أشياء لا بد أن توضع في مكانها: \"ذكرتني بخارطة الطريق الفلسطينية, مساكين الفلسطينيون, عاشوا وهم هذه الخريطة, التي ليس فيها نقطة ثانية ولا أولى, بما يعني لا يوجد خط أصلاً. اسمع مني هذه النصيحة: إذا أردت أن يقبل أي شعب حاضره فاربطه بالمستقبل, إنها الوعود الكاذبة تقتل أي حماس. وأعتقد أن حماس (المنظمة) سوف تنتهي عند التوقيع على أول وثيقة وعد كاذبة. صلاح يضع راحت يده على جبهته كأنه يقيس مساحة حكمته: \"هذا الوهم عاشه السابقون في الحروب الصليبية, وثبت عدم جدوى ذلك, ولم يستطيعوا الثبات إلا عندما قويت الشام بمصر وقويت مصر بالشام, الجواميس البلهاء أكلت عندما أكل الثور الأبيض\". تزداد سرعة الكلام عند صلاح, ويرتفع صوته, ويغرس الغمد في التراب عند كل سؤال قائلا: \"أتمنى أن أسأل شاباً واحداً ممن يفجرون في بلداننا العربية, ماذا يريد؟ هل أفكاره مرتبة؟ هل يعرف كل خطوة يخطوها؟ هل يفرق بين الوسيلة والغاية؟ أعتقد أن الوضع اختلط ولا بد من تصحيحه\". بوش تزداد عيونه الصفراء اضمحلالاً, وهو يرى الشمس تفرش وشاحها الأصفر على الرمال: \"إلى هذه الدرجة أنت مستاء يا صلاح؟ لا تحمل الموضوع أكثر مما يحتمل. الغرب حاول منذ بداية الحملات الأجنبية الاستعمارية أن يغيركم ولم يستطع, وأكثر ما يدل على ذلك نشوء الصحوة الإسلامية التي تفشت في الشباب حتى أصبحت جزءاً من الواقع الثقافي العربي\". صلاح يغشاه شيء من الهدوء الذي سرعان ما يتبدد: \"هذا صحيح، الصحوة بدأت بقوة الفكر والنقد للتراث الإسلامي العربي, لكن سرعان ما تحول قادتها إلى أساطير لما بعدهم. بدل أن تقوم الصحوة بقراءة تاريخنا الحضاري بعين تجديدية نقدية وتنبعث إثر ذلك حضارتنا من جديد, أصبح جل اهتمامنا قراءة الصحوة نفسها وتقييمها وتقييم روادها ولوك ذلك مرات ومرات. إنه تغير في المعايير, تبدلت الوسيلة إلى غاية، وهذا مرض مزمن في التعاطي الثقافي لأمتنا\". بوش: \"لا عليك يا صديقي\". يلتفت إليه صلاح التفاتة محارب: \"نحن لسنا أصدقاء. منذ بداية المشروع النهضوي التحرري ظهر عدائكم. من اللحظة الأولى حاولتم تفتيت الناهضين: بين من يراكم الأعداء ويتبني مجابهتكم, وبين من يرى الدولة العثمانية هي العدو ولابد من التحرر منها بدعمكم, هذا على المستوى السياسي. أما الفكر فقد توزع بين جبهتين: شيوعية بكل ما أوتيت من قوة, ورأسمالية تقدس الفرد, ولو تجرأ أحد أن يتبنى مبدأ خاصاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كانت نهايته السحق, ولما انتهت الاشتراكية على الأقل سياسياً, خرج لنا نوع آخر من التفتيت: إسلامي وليبرالي، رجعي تقدمي، أصولي حداثي. وأخيراً تم نفخ إيران بعدما فككتم قوة من يهددون قوتها (العراق – أفغانستان), ليخرج بعبع الشيعة والسنة. المشكلة يا بوش أنكم لا تنطبق عليكم مقولة بشار بن برد: (مقارف ذنب مرة ومفارقه) حتى نتصاحب, أنتم على طريقة مقارف ذنب مرة ومقارفه\". بوش ببضع التفاتات تدل على شيء من عدم الرضا: \"الحوار معك صعب يا صلاح\". صلاح تحمر عيناه حنقاً: \"عن أي حوار تتكلم؟!, أنتم لم تحتاجوا للحوار حتى تتحاوروا, أنتم الآن بين خيارين: إما تقتلوننا ونصمت, أو تتركوننا نحيا ونشكركم. وسيكون الخيار الأول أفضل لكم على اعتبار أننا الخطر القادم بعد سقوط الشيوعية, أنتم دول المركز لا تتحاورون إلا فيما بينكم, أما إذا انتقلتم إلى الأطراف ينتقل الحوار إلى إجبار, إلا في حالة واحدة, إذا كانت دولة الطرف ذات قوة عسكرية واقتصادية ومتماسكة من الداخل, وتيقنتم أنكم ستخسرون بإجبارها, يمكن حينها محاورتهم, وفي أقرب فرصة ضعف سانحة لهذه الدول تنتقلون إلى الإجبار. إنها الانتهازية والاستغلال وحق القوة, أنتم غيرتم المقولة التي تقول (أنا أفكر إذاً أنا موجود) إلى (أنا قوي إذاً أنا موجود). المقابلة انتهت يا بوش، تعرف لماذا؟ لأننا لسنا موجودين حتى نتحاور\". سليمان الغنيم [email protected] Email: