دخل السجن بصحة جيدة، وبكامل قواه العقلية والجسمانية. حُكم عليه بالمؤبد أربع مرات، وتنقّل بين السجون والزنازين الانفرادية، ومُورس بحقه أقصى أنواع التعذيب والإهانة، وحُرم من أبسط حقوقه، وتمّ تعريضه للضغط النفسي والجسدي، فأصابته عدة أمراض نفسية، وتدهورت حالته خلال تلك المدة حتى فقد أهليته بشكل تام. ثلاثة وعشرون عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أغلبها في العزل الانفرادي: زنزانة لا تتعدى الأمتار تكفي لأن يجلس فيها الشخص على شكل القرفصاء، مع إضاءة خافتة تثير الأعصاب، لا يتحدث مع أيّ شخص، ولا يسمع لأيّ إنسان. إنها قصة الأسير الفلسطيني عويضة كلاب، الذي تنسّم هواء الحرية ضمن صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط التي تمّت مؤخراً. وعويضة هو أحد سكان منطقة الشيخ رضوان بقطاع غزة، اعتقل عام 1988م بعد أن ألقى قنبلةً على تجمّع جنود إسرائيليين، فقتل ستة منهم. أين أمي؟! «عندما رأيته أول وهلة لم أعرفه؛ فهذا ليس أخي عويضة الذي عهدته».. بهذه العبارة بدأت فاطمة كلاب -الأخت الكبرى للأسير المحرّر عويضة كلاب- حديثها مع موقع (نساء من أجل فلسطين)، مؤكدةً أنها متمسّكةً بأمل أن يعود أخوها كما كان. وذكرت فاطمة أن عبارة (الحمد لله) لا تفارق لسان أخيها، مع أنه في بعض الأحيان لا يعرف الناس، ويجلس وبصره شاخص. وأضافت فاطمة كلاب: أول شخص سأل عنه عويضة بعد خروجه من السجن هو أمي، وحاولنا بالتدريج إخباره بأنها توفيت منذ مدة طويلة بعد أن أصيبت بالمرض وهو في عزله الانفرادي، ولم نستطع أن نبلغه وقتها. وكانت أمنيتها -رحمه الله- أن تكتحل عيناها برؤيته، ولو للحظات بسيطة، لكن لم يقدّر لها ذلك، ولم تره نهائياً منذ أن حُكم عليه بالسجن، وعندما أبلغناه أنها توفيت بكى بشدة كأنه طفل صغير فقد أعزّ أحبابه. وعن سرّ المرأة التي تظهر في الصورة بجوار الأسير المحرّر عويضة في مهرجان ساحة الكتيبة الخضراء، أجابت فاطمة: إنها زوجة أخيه الكبيرة، وليست أمه، لكنها بمنزلة والدته؛ فهي من ربّته منذ أن كان صغيراً، وربّت ابنه وابنته بعد أن دخل السجن. حالته الصحية لا تسرّ وأشارت فاطمة كلاب إلى أن أخاها عويضة توجّه إلى الطبيب، ونصحه بعدة جلسات أخرى؛ لأنه منذ أن خرج من السجن حالته الصحية لا تسرّ؛ فهو يتعب من الأكل؛ لأن معدته غير معتادة على الطعام، وتصيب جسده رعشة لا يستطيع التحكم فيها، فسّر الطبيب سببها بأنها ترجع إلى إصابة ألمّت بجهازه العصبي وهو في السجن. وتابعت فاطمة: نلاحظ على عويضة أن جلسته غير طبيعية؛ فمعظم الوقت يجلس القرفصاء كما كان يجلس في زنازين العزل الانفرادي، ونحاول كل يوم أن ندلّك جسده بالزيت مع التدليك الطبيعي لأطرافه. وذكرت زوجة عاصف، الابن الوحيد للأسير المحرّر عويضة كلاب، أن أبا زوجها سليم جداً من الناحية العقلية؛ فهو يتذكر كل شيء في الحياة التي عاشها قبل الأسر، وعندما نسأله عن عمر عاصف عندما سُجن يجيب: أربعون يوماً. لكنه لا يستطيع ربط شخصية ابنه مع مرور الأعوام بالواقع؛ فآخر مرة رآه فيها كان عمر عاصف عامين؛ بسبب العزل الانفرادي في سجن العدو الصهيوني. وتابعت زوجة الابن: لا يحبّ الأسير المحرّر عويضة أن يرى باباً أو شباكاً مغلقاً، وأول يوم دخل فيه البيت كان يخجل من التعامل مع أهل البيت، فجلس وحيداً في غرفته، ورفض الاختلاط بالجميع، وهو لا يحبّ الأعداد الكبيرة من الناس، ويحاول كثيراً أن يخبّئ وجهه بكفيه، وتتعبه جلسة الكرسي؛ لأن جسده أخذ على جلسة القرفصاء. وأكدت زوجة الابن أنهم زاروا طبيباً نفسياً، وأشار إلى أن الأعراض السابقة بسبب العزل الانفرادي الذي قطعه عن التواصل مع العالم الخارجي، ونصحهم باتباع جدول مخصّص لتخطّي الحالة النفسية التي وضعه فيها الاحتلال؛ فجميع التعاملات والطعام تتم على أنه طفل صغير، مع محاولة دمجه في المجتمع تدريجياً؛ فالطعام شوربات خفيفة، وطعام خفيف؛ حتى تستطيع معدته هضم الطعام الطبيعي.