أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالاجتماع والاتفاق، ونهاهم عن الشقاق والافتراق وامتن عليهم بنعمة تأليف قلوبهم، وإنَّ أولى الناس اليوم بامتثال هذه الأمور هم أتباع السلف الصالح، أهل السنة والجماعة الذين تميزوا بهذا الاسم لاجتماعهم وعدم افتراقهم.
لكن للأسف – أيها الإخوة – فالناظر في الساحة الإسلامية يرى من انقسام السلفيين وتفرقهم ما يدمع العين ويدمي القلب، وفي ورقتي هذه أقف معكم بشيء من الاختصار لمناقشة هذه الظاهرة مبيناً فيها بعض أهم أسبابها، وطرق علاجها، وقد جاءت في محورين: المحور الأول في: أسباب الانقسام السلفي: ولاشك أن الانقسام السلفي اليوم له كثير من الأسباب؛ وهنا لسنا بصدد حصرها، لكننا ننبه على طائفة من أهمها ولا يخفى أن الأمر في هذا اجتهادي، وهذه الكلمات من المأمول أن تكون لبنة في بناء المراجعات الضرورية والنقد الذاتي الذي ينبغي أن يتداعى له الغيورون؛ وفيما يلي عرض سريع لأبرز هذه الأسباب:
السبب الأول- اختلاف الأفهام والتعصب للرأي: خلق الله سبحانه وتعالى خلقه متفاوتين في العقل والفهم والطباع، وكان من نتيجة هذا التفاوت أن وجد الاختلاف بين الناس منذ بدايات البشرية الأولى -كما في قصة ابني آدم- إلى يومنا هذا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فالاختلاف أمر واقع ملازم للمجتمعات الإنسانية، وليس المجتمع المسلم عن هذا الواقع ببعيد، وهذا الاختلاف على قسمين رئيسين كما هو معلوم؛ فاختلاف تنوع واختلاف تضاد، أما الأول فهو الذي يكون كل فرد من أفراده صحيحاً في نفسه، وأما اختلاف التضاد فلا يكون كل فرد من أفراده صحيحاً في نفسه، فإن كان في أمر الدنيا فقد يكون هناك مصيب ومخطئ أو قد لا يوجد مصيب، وأما في أمور الدين -ومثاله اختلاف الفقهاء في الأحكام الفقهية أو المحدثين في الحكم على الأحاديث- فلا يجوز أن تخلو الأمة من قائل بالحق في كل مسألة في أي زمن من الأزمنة، والصواب في مثل هذه المسائل مع أحدهم لا جميعهم لأن الحق واحد لا يتعدد كما هو مقرر عند المحققين من أهل الأصول.
فاختلاف التضاد في حد ذاته لا ينبغي أن يكون سبباً من أسباب الفرقة والانقسام، إذا كان في مسائل الاجتهاد فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل من المصيب والمخطئ أجره إذا اجتهد في طلب الحق، لكن الذي يؤدي للفرقة هو إصرار كل فريق على رأيه وتعصبه له وعدم اتساع قلبه وصدره للخلاف.
السبب الثاني- إعجاب كل ذي رأي برأيه وحب الرياسة والظهور: ولا شك أن في هذا من إيغار الصدور وبث بذور الشقاق والخلاف ما فيه، فكيف إذا تفشى بين كثير من أفراد الجماعة؟ إن هذه الآفات كفيلة بإحداث الانقسام في أي مجموعة تظهر فيها، فإذا أعجب المرء برأيه لم يكد يسمع لغيره، فضلاً عن أن يقبل منهم، وهذا خلاف ما أمر به رب العزة تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، وهو خلاف حال المؤمنين الذين وصفهم سبحانه بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. وحب الظهور كما أنه يقسم ظهر صاحبه فإنه أيضاً يقسم ظهر الجماعة عندما يكون مصحوباً بحب الرياسة.
السبب الثالث- نفي السلفية عن الآخرين: السلفية ليست كلمة مبهمة ولا مصطلحاً خفياً، بل هي منهج واضح بين، يقوم على الأخذ بالكتاب والسنة وتعظيمهما والعمل بهما في الظاهر والباطن وتحكيمهما في كل الاعتقادات والأفعال والأقوال، مع ضبط ذلك كله بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على دربهم ومنهجهم من الأئمة المتبوعين والعلماء العاملين، وهذه هي السبيل التي أمر الله عز وجل عباده باتباعها كما في قوله جل وعز: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. ومثل هذا لا يخفى على أحد ممن ينتمي للسلفية أفراداً وجماعات، فمن زعم الانتماء للسلفية حاكمنا ظاهره إلى ما سبق ووكلنا سريرته إلى الله؛ هذا هو الواجب، وأما الحاصل اليوم فكثير منه يسير بخلاف هذا الأصل الأصيل، حيث تنفي السلفية دون تثبت وبأدنى شبهة، بل أحياناً بمحض التشهي والتشفي.
إن الناظر في تاريخ هذه الأمة يجد من حال صدرها الأول عجباً، ففي الجمل وصفين وصل الأمر إلى أن رفع الصحابة سيوفهم في وجه بعض، لكن هذا ما حملهم على البغي على إخوانهم بنفي كل فضيلة عنهم وإخراجهم من دائرة الجماعة الواحدة، ففي تاريخ دمشق لابن عساكر (سمع عمار رجلاً يقول: كفر أهل الشام. قال: لم يكفروا، إن حجتنا وحجتهم واحدة، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق، فحق علينا أن نردهم إلى الحق).
فيأيها الإخوة! لا يحل إذن لنا أن ننفي السلفية عن أحد ممن يرفع شعارها بمحض التشهي ولا بمجرد الاختلاف معه، وحتى لو قدر وقوع خلاف منهجي في مسألة أو أكثر فإن هذا لا يكفي لنفي السلفية عن المخالف، اللهم إلا إن كان هناك إجماع سلفي سابق لا خلاف فيه وعلمنا إصراره على تنكب منهج السلف الواضح البين، قال ابن تيمية رحمه الله: (فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدراً)، وأما دعوى الإجماع التي لم تثبت، أو الأمر المحتمل، أو ما وقع فيه خلاف بين السلف أنفسهم، فكيف يحل لأحد اليوم أن ينفي السلفية بمثل هذا الاختلاف!
السبب الرابع- سوء الظن بالمخالفين وإلقاء التهم جزافاً: الأصل أن تحمل حال المسلمين على السلامة؛ السلامة من الكفر والبدع والمخالفات، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين، ويتأكد هذا مع من يرفع راية الإسلام ويدعو إليه، ومن باب أولى مع من يدعو إلى منهج السلف ويذب عنه ويزعم الانتساب إليه. فإن قدر أن صدر من بعض الأفاضل ما يحتمل أن يخالف ما يدعون إليه من منهج السلف، فينبغي حمل كلامهم وأفعالهم على أحسن المحامل، والاعتذار عنهم بشتى أنواع الأعذار؛ كسبق اللسان أو القلم، أو الذهول عن الاحتمال الرديء، أو غير ذلك. ثم لو قدر أن يصدر من الفاضل ما لا يحتمل التأويل ولا الحمل على المحمل الحسن، فإنه يحتمل من الفاضل ما لا يحتمل من غيره، وسابق فضله وعلمه قد يكون بحراً تنغمر فيه مثل هذه الزلة، وأي امرئ لا يقع في الزلات والأخطاء والهنات؟ هذا واحتمال خطأ الفاضل وإقالة عثرته شيء، والسكوت عن الباطل الذي صدر منه شيء آخر، فلا يخفى هنا أن إلقاء التهم جزافاً أمر مختلف عن التخطئة، فالتخطئة مبنية على ما يظهر من الأقوال والأفعال، وأما إلقاء التهم فيتعامل مع النيات، حيث يحاسب الآخرين على مكنونات ضمائرهم، ويحمل أقوالهم وأفعالهم على أسوأ المحامل مستحضراً فساد نية وقصد الآخر، أو أنه يخفي في صدره ما لا يبديه للمؤمنين.
السبب الخامس- غياب المرجعية الجامعة: ونعني بهذه المرجعية العالم أو العلماء الذين يلقون قبولاً عند مجموع السلفيين بحيث يرجعون إليهم ويصدرون عن رأيهم عند الاختلاف أو عند وقوع النوازل، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالرد إلى هؤلاء في مثل هذه المواطن، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}، وفي قوله: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة كما قاله الإمام السعدي.
فهو قاعدة أدبية، فمتى حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. ولا يخفى أن مثل هذه المرجعية كانت موجودة مع بدء اندفاعة الصحوة الإسلامية السنية السلفية في العصر الحاضر في حياة المشايخ الثلاثة؛ ابن باز، والألباني، وابن عثيمين رحمة الله عليهم، حيث كانت جموع السلفيين حول العالم تقر لهم بالعلم والفضل وترجع إلى أقوالهم وتسترشد بآرائهم، وقد كان بينهم رحمهم الله من التوافق والتراحم والتقدير المتبادل ما يعزز وحدة السلفيين وإن اختلفت الاجتهادات في بعض المسائل قلت أو كثرت، وبرغم ظهور بوادر الانقسام السلفي في عصرهم، إلا أن وجودهم كان بمثابة صمام الأمان والكابح من الانزلاق السريع نحو هذا الانقسام، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
السبب السادس- الاختلاف في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع: جزء مهم من الخلاف على الساحة السلفية اليوم مرجعه إلى هذا الأمر، فقد تكون الكلمة متفقة على الحكم الشرعي في مسألة ما، لكن الخلاف يقع في تنزيل هذا الحكم على الواقع، وهذا يرجع إلى اختلاف الأنظار حيال الواقع، والاختلاف في فهمه ومعرفة أبعاده وتفاصيله، والأمر في هذا واسع، فإن العقول تتفاوت والأفهام تختلف، والإلمام بأبعاد الواقع يتفاوت كذلك، ومثل هذا لا ينبغي أن يكون سبباً للتدابر والتقاطع والانقسام، ما دام الضابط في التعامل مع الواقع هو المنهج السلفي نفسه.
السبب السابع- قلة العلم وفوضى الساحة العلمية والدعوية: ونقصد بهذه الفوضى الجرأة التي نراها من بعض الناس الذين لا يرقون إلى مرتبة طلاب العلم فضلاً عن أن يكونوا علماء، حيث نجد الواحد منهم يتكلم في كل باب من أبواب العلم والدعوة، وإذا سئل أفتى بغير علم فضل وأضل، هذا مع كون المسألة الواحدة من أمثال هذه المسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر. ولئن كان مثل هذا الأمر ليس بالأمر الجديد، إلا أن انتشار وسائل الاتصال الحديثة قد ساهم في تعاظم أثر هذا الأمر وخطورته، فرسائل المحمول ومواقع الشابكة العالمية أتاحت كماً هائلاً من فرص نشر الآراء والمعلومات.
إن باباً عظيماً من أبواب الانقسام السلفي هو تلك الحرب الضروس التي نرى رحاها تدور في جنبات المنتديات والغرف الصوتية المنتشرة على الشابكة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الشريحة الأعظم من السلفيين ليست منضوية تحت راية جماعة أو جمعية معينة، بحيث يمكن أن تنضبط في إطار توجهاتها أو توجيهاتها أمكننا أن ندرك سبب استفحال الأمر. إن المرء ليعجب من جرأة بعضهم على تقحم مواطن ليسوا من أهلها، مع ما استقر في أذهان طلبة العلم من خطورة الفتوى بغير علم؛ وقد يكون من أسباب ذلك شيوع مفاهيم حرية الرأي والتعبير في هذا العصر، بحيث أصبحت تمثل مرتكزاً رئيساً في الوعي الجمعي لكثير من الناس، حتى صار الفرد السلفي الذي لم يثن الركب عند أهل العلم واكتفى بسماع الدروس المسجلة واستقى كثيراً من معلوماته الشرعية من المنتديات والمواقع غير قادر على التمييز بين ما هو مقبول وما هو ليس مقبولاً في هذا الباب.
السبب الثامن- الخلل في ميزان التقويم: للأسف فالناظر في الخلافات على الساحة السلفية يرى أن كثيراً مما يؤدي منها إلى الانقسام ليس على تلك الدرجة من الأهمية التي أعطيت له، فمنها ما وسع سلفنا السكوت عنه، ومنها ما قدم وحقه التأخير، ومنها ما أعطي أكبر من حجمه بكثير؛ ومرجع هذا في نظرنا إلى وجود خلل لدى البعض في ميزان التقويم، وهذا الداء -كغيره- ليس جديداً، ففي صحيح البخاري عن ابن أبي نعم قال: "كنت شاهدا لابن عمر وسأله رجل عن دم البعوض فقال: ممن أنت ؟ فقال: من أهل العراق. قال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هما ريحانتاي من الدنيا"، فانظر إلى هذا الرجل لما اختل عنده الميزان كيف استعظم مسألة دم البعوض ولم ير فيما وقع من أهل العراق بحق الحسين رضي الله عنه من دعوته ثم إسلامه لعدوه ما يستحق السؤال والندم والاهتمام! فكذلك فيما يجد على الساحة، إذ قد يؤدي هذا الخلل إلى أن يعادي المرء على أمر لا يستحق، لكنه يأخذ عنده أكبر من حجمه فيكون في نظره عظيماً، ومن هنا تقع الفرقة.
السبب التاسع- طلاب السوء وعدم التثبت من نقل الكلام: تاريخنا الإسلامي فيه كثير من النماذج التي أطلق عليها اسم علماء السوء، والجديد في العصر على الساحة السلفية هو ظهور ما يمكن أن نسميهم طلاب السوء، وهم أناس يتحلقون حول المشايخ لطلب العلم أو حضور الدروس العامة، ثم ينقلون ما يسمعونه من أحد المشايخ لغيره ممن قد يقول في المسألة بقول آخر، وقد يزيد الطالب كلاماً من عنده، أو قد يفهم الكلام على غير وجهه فيقع من نسبته القول لهذا العالم من الشر ما الله به عليم، وشر من كل ما سبق من يعلم بوجود خلاف في مسألة ما فيأتي لأحد المشايخ فيقول: ما تقول يا شيخ فيمن يقول كذا وكذا؟ وقد يكون الشيخ خالي الذهن ولا يقصد إساءة أو تجريحاً لأحد فيأخذ الطالب مقالته إلى الشيخ الآخر قائلاً: الشيخ الفلاني يقول عنك كذا وكذا. فكم من فتنة أشعلها أمثال هؤلاء الطلاب، وكم من عداوات قامت بسببهم، وإلى الله المشتكى.
ومن جهة أخرى فإن جزءاً من هذه المشكلة يقع على عاتق المشايخ أنفسهم، حيث يقبلون كلام هؤلاء التلاميذ وقد لا يكونون خبروا أحوالهم وتأكدوا من عدالتهم وضبطهم، وإنما يكتفون برؤيتهم يحضرون مجالسهم. السبب العاشر- الشدة بدل الرفق: حيث وقع الاختلاف فلا بد من وجود النقاش والمحاورة والمجادلة والبيان، لكن من أسباب الانقسام السلفي اليوم ما نراه من شدة على المخالف وسلقه بألسنة حداد وتقريعه وتوبيخه، وهذا مما يثير القلوب بلا شك.
المحور الآخر – أيها الكرام – في وسائل علاج حالة الانقسام، وانتظمت لي في النقاط الآتية: 1- إدراك وجود المشكلة والاعتراف بأهميتها: إن أول خطوة لحل أي مشلكة هي معرفة وجودها، وهذا الإدراك يكاد يكون غائباً عند قطاع لا يستهان به من أبناء الدعوة السلفية ولاسيما الذين يحصرون السلفية في أنفسهم! بعض هؤلاء هم جزء من المشكلة لأنهم فرسان هذا الانقسام، وبعضهم يعيش منعزلاً عن متابعة واقع الدعوة على المستوى العام فلا يعرف حقيقة الحال، وبعضهم يقر بوجود المشكلة لكنه لا يدرك حجمها ولا أبعادها ولا مآلاتها، وبعضهم يدرك كل ذلك لكنه لا يضع حل هذه المشكلة على سلم الأولويات والاهتمامات. ومعلوم أن الافتراق واقع، لكن السعي لدفعه مأمور به قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، ولأمره تعالى بالاتفاق وتحذيره وتحذر نبيه صلى الله عليه والسلام من الافتراق، فالواجب أن يسعى كل فرد من أفراد الدعوة إلى نشر الوعي بين جموع السلفيين وبيان خطورة هذا الانقسام، فيسعى كل في محيطه بما آتاه الله من قدرة، لإيصال هذه الرسالة وحث المشايخ وطلبة العلم على التصدي لها بالدراسة والتحليل ووضع الحلول وسبل العلاج، ونشر التوصيات والمقترحات والفتاوى بهذا الخصوص.
2- الإخلاص وتقوى الله: المدقق في أسباب الانقسام سالفة الذكر يلمس أن جزءاً كبيراً من حل هذه المعضلة يكمن في تقوى الله سبحانه وتعالى، فلو أن كل فرد اتقى الله عز وجل وخشيه حق خشيته، لغلب الصالح العام للسلفيين بل لعموم الأمة المسلمة على صالحه الخاص أو على صالح جماعته الضيقة، ولعرف لإخوانه حقوقهم فحفظها ولم يضيعها، ولعرف لأهل العلم حقوقهم ومنازلهم التي أنزلهم الله إياها، فلم يتعرض لهم بسوء أو تجريح أو اتهام بالباطل. إن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه وقد نهى الإسلام عن الكبر وأمر بالتواضع، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد"، فكل هذا وأمثاله مما ينبغي أن يضعه المرء نصب عينيه قبل أن يقدم ويتصدر المجالس ويدلي بدلوه بما قد يفرق ولا يجمع، وليتق الله أن يكون ممن وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما في جامع الترمذي بسند حسن: "من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار".
3- العمل بالعلم والتأسي بالسلف الصالح: السلفيون من أحرص الناس على متابعة السلف الصالح والتأسي بهم والدعوة إلى ذلك، فمجالسهم ودروسهم مليئة بالكلام عن عقيدة السلف وعلمهم، وعبادتهم وأخلاقهم، لكن الواقع اليوم يظهر أن هناك انفصالاً في كثير من الأحيان بين الواقع وبين ما ندعو إليه، فهل كان السلف رضوان الله عليهم يقعون في أعراض بعض؟ أو كان بعضهم يخرج بعضهم من دائرة أهل الحق ويرميه بالبدع وعظائم الأمور مهما عظم الخلاف بينهم؟ لقد وقعت مقتلة عظيمة بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمل ويوم صفين، وسالت دماء غزيرة زكية طاهرة، لكن القلوب عادت واجتمعت وتآلفت، فمن الله على أهل السنة بالاجتماع بعد الافتراق وبالاتحاد بعد الانقسام، وهذا ما كان ليتم لو لم تكن القلوب طاهرة زكية، وما لم يكن الجميع يريد الحق والخير ويعذر صاحبه.
قال ابن تيمية رحمه الله: (كان السلف -مع الاقتتال- يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك) ، فما أحرانا اليوم أن نتمثل بهؤلاء الأماجد ونحن بفضل الله لم نصل فيما بيننا إلى حد الاقتتال. وانظر إلى ابن تيمية رحمه الله حيث يصف ولاة الأمر في مصر والشام في زمانه أنهم من الطائفة المنصورة، رغم أن دولتهم كانت تنصر الأشعرية والصوفية، يقول رحمه الله تعالى: (أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما، فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولاً في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة") ، وما ذاك إلا لكونهم قاموا مقاماً لا يقومه أحد في زمانهم، فهل ترى حال أي فريق من السلفيين اليوم أقل شأناً من حال أولئك!
4- البعد عن التعصب المقيت: إذا كان الجمع بين الأقوال في اختلاف التضاد متعذراً، فلا يلزم من ذلك أن ينقسم الصف المسلم وأن تتباغض القلوب، وغياب مثل هذه الروح وتفشي روح التعصب للرأي هي التي تشعل الخلافات والعداوات، ورحم الله أئمتنا حيث قالوا: رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، فبمثل هذا الفهم تجتمع القلوب وتستقيم الصفوف، وليس معنى ما سبق أن نردد العبارة المشهورة: نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لأنها لا تصح بهذا الإطلاق، ولكن نقول: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ونتناصح فيما اختلفنا فيه، فيعذر بعضنا بعضا فيما كان الخلاف فيه سائغاً، وينكر بعضنا على بعض فيما سوى ذلك.
فلسنا ندعو إلى أن يمتنع العلماء وطلبة العلم عن الرد على بعضهم، ولا أن يمتنع أحدهم عن تخطئة غيره، ولا أن يمتنع أي أحد عن إنكار المنكر وإن صدر من عالم، فكل هذا مطلوب لكن المرء لا ينبغي له يتعصب لرأيه ولا أن يحمل الناس عليه حتى إذا لم يوافقوه عاداهم وأنكر عليهم، قال ابن مفلح رحمه الله: (قال أحمد في رواية المروذي لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه) .
5- إيجاد المرجعية الجامعة: إن وجود مثل هذه المرجعية الجامعة يقلل كثيراً من احتمالات الانقسام بين السلفيين، ومن ثم لا يكون الخلاف وتعدد الآراء وتشظيها بلا ضابط من حيث العدد والاتساع، بل يكون مثل هذا الاختلاف منحصراً في أضيق الحدود. ولا شك أن وجود مثل هذه المرجعية لا يمكن أن يتم بتوصيات ولا بقرارات، لكنه يتم مع الزمن بتراكم الخبرات لدى المؤهلين من أهل العلم لشغل هذا الموقع، ولكن ما يمكن القيام به اليوم هو دعوة أهل العلم من مختلف البقاع للتجمع في مجامع علمية أو هيئات إرشادية تقوم بدراسة المستجدات والنوازل التي تمر بالأمة، وبحث المسائل العلمية الكبار التي قد يقع الشقاق بسببها لتسترشد جموع السلفيين بما يصدر عنها، ومن ثم تقوم بتصويب العمل السلفي وتوعيته وتصويب مساره، وهذه خطة سلفية، قال الذهبي رحمه الله في السير: (قال أبو شهاب الحناط: سمعت أبا حصين يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر).
6- وساطة الحكماء: أما وقد وقع الانقسام في الصف السلفي فالواجب أن ينتدب بعض أهل العلم ممن لم يدخلوا في التحزبات لرأب الصدع ورد المتخالفين إلى الضوابط السلفية السنية التي يدينون بها، فتطرح مسائل الخلاف على طاولة البحث ويتعاهد الجميع أن يكون إحقاق الحق هو همهم، ويستحسن أن يتم تنظيم هذا العمل حتى لا يكون عشوائياً أو وقتياً وذلك بإنشاء جمعيات أو هيئات متخصصة في هذا المجال. فمن المقترح أن تنبري في كل منطقة فرقة من أهل الخير والصلاح من العلماء وطلبة العلم الذين يحظون بالقبول من المتنازعين لتقوم بما ندب الله سبحانه وتعالى إليه، وذلك بالجمع بين المتنازعين ومحاولة تقريب وجهات النظر وإزالة ما في القلوب من شكوك وظنون، ودعوة الجميع للنزول على كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح وأهل العلم الماضون.
إن القيام بالإصلاح بين التجمعات السلفية أو طلاب العلم السلفيين –بل بين من ينتسب إلى الإسلام- من أجل المهام، فإصلاح ذات البين من أعظم الأعمال كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما في جامع الترمذي بسند صحيح: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: إصلاح ذات البين؛ وفساد ذات البيت الحالقة".
والسلفيون بفضل الله منهجهم واحد ودعوتهم واحدة ومرجعيتهم واحدة، فليجتمع المتنازعون منهم على كلمة سواء يرددونها جميعاً، وهي تحكيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم السلف لتكون حكماً فيما شجر بينهم، وليكن المصلحون من أهل الحكمة حكماً عدلاً بين الأطراف جميعاً، وليكن رائد الجميع هو طلب رضا الله والحرص على الدعوة وعلى أمة الإسلام جميعاً، فهذه والله خطة رشد ما ينبغي لعاقل أن يتخلف أو يعرض عنها.
6- تحصيل العلم الشرعي المؤصل والدراسة المستفيضة للواقع: العلم جنة، يعصم صاحبه بإذن الله من الوقوع في مواطن الزلل، وقد سبق معنا أن قلة العلم واحدة من أسباب الانقسام الذي نراه اليوم. والعلم المطلوب هو العلم المنهجي المؤصل الذي تناقله علماؤنا الأفذاذ جيلاً بعد جيل. وحيث إن جزءاً من المشكلة سببه اختلاف النظر حيال الوقائع والمستجدات، فإن الأمر يحتاج من العلماء المؤصلين ومن طلبة العلم النابغين إلى مزيد تأمل وتعرف على تفاصيل الواقع المعاصر الذي يزداد تشعباً وتعقيداً يوماً بعد يوم، وهذه المهمة ينبغي أن توليها المجامع والهيئات العلمية التي سبق اقتراحها مزيداً من الاهتمام، مع الاستعانة بالخبراء المتخصصين في شتى المجالات الضرورية، لتتضح الرؤية للجميع ومن ثم يكون الحكم على صورة مطابقة للواقع أو أقرب ما تكون إليه.
7- الاهتمام بتربية الطلاب والتثبت من الأخبار: ما أحوجنا اليوم إلى من يأخذ بأيدي طلاب العلم إلى محاسن الأخلاق ليترفعوا عن الصغائر وسفاسف الأمور التي تضر ولا تنفع، وليترفعوا عن نقل الأخبار بين الأقران حسماً لمادة الفتنة وقطعاً لدابرها. وهذه مهمة أهل العلم والمشايخ الذين يتصدون للتدريس، فلا ينبغي الاكتفاء بتدريس العلوم الشرعية المجردة، بل لابد من تعاهد الطلاب بالتوجيه والإرشاد، فإن العلم ينبغي أن يورث صاحبه العمل، أما إن لم ينعكس هذا العلم المتلقى على أخلاق وسلوكيات الطلاب، فليس هذا هو العلم النافع الذي ترجى به الدار الآخرة ومنهج أهل السنة والجماعة أتباع الأثر والأخبار، فإن لهم عناية بالرواية أكثر من غيرهم، فحري بأتباعهم السلفيين أن يسيروا على منوالهم ويقتفوا آثارهم.
8- ضبط الساحة العلمية والدعوية الحقيقية والافتراضية على النت: وهذا يحتاج إلى تضافر جهود أهل العلم وطلابه والدعاة إلى الله وعموم السلفيين الآخذين عنهم المدركين لخطورة هذا الأمر، أما أهل العلم فيرجى منهم التحذير من هذا التفلت -لا سيما على الشابكة العنكبوتية- وإصدار الفتاوى الزاجرة لغير أهل التخصص عن التكلم في المنتديات والغرف الصوتية بغير علم شرعي مؤصل، وكذلك لا بد من التأكيد على أصحاب المواقع والمنتديات ألا يسمحوا بنشر كلام كل من عن له أن يتكلم. إن مثل هذا الأمر الأخير قد يكون من الصعوبة بمكان، لا سيما وأنه مخالف لعرف استقر لسنوات عديدة، حيث يكتفي كثير من أصحاب المواقع والمنتديات بدعوة الزوار لتقوى الله ومن ثم يخلون مسؤوليتهم عما يكتب في منتدياتهم. إن ما ندعو إليه وإن كان يحمل في طياته مشقة كبيرة إلا أنه يغلق باباً للشر عظيماً، وإلا فإن إغلاق المنتديات أو عدم افتتاحها ابتداء، أولى من افتتاحها وملئها بالغث والسمين، لا سيما مع فشو الجهل، وعدم قدرة كثيرين على التمييز بين الحق والباطل. إن وجود عشر منتديات منضبطة بمثل ما ذكرنا من ضوابط، خير وأولى من عشرات بل مئات المنتديات التي تمتلئ بالخير والشر جميعاً.
9- الرفق بدل الشدة: لقد كان أولى بمن يلجأ إلى الشدة أن يستحضر معاني الرفق الذي حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع، (الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه)، (يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
إن الذي يلبس على كثير من الناس في هذا المقام، عدم قدرتهم على التفرقة بين مواطن إنكار المنكر ودرجاته، وبين مواطن البحث العلمي ومواطن النصيحة؛ ولسنا هنا في وارد الدعوة لعدم نصح المخالف أو عدم الإنكار عليه -إن لزم الأمر- فضلاً عن الدعوة للسكوت عن أخطائه وعدم بيانها للناس، لكننا ندعو إلى الحكمة وإعطاء كل مقام ما يستحقه، والحكمة كما قال ابن القيم: "فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي".
إن مما يوغر الصدور ويزيد من الانقسام على الساحة السلفية أن يسارع البعض لنشر الردود والتعقبات، مع اللمز في المخالف، أو الحط عليه ورميه بالعظائم، وكان أولى من هذا أن يكتفي ببيان الخطأ ومناقشة المسألة مناقشة علمية هادئة، أما إن رأى أن الأمر عظيم وينبغي إنكاره والتحذير منه، فكان أولى به أن يسعى لصاحب المقالة بالنصيحة التي لا تكون في العلن، فيبين له وجه خطئه وخطورة ما يؤدي إليه كلامه، فإن هو بين له المحجة ووجد من صاحبه إصراراً على رأيه دون حجة ودليل أو شبه دليل، فحينها لا تثريب عليه أن ينكر على العلن إعذاراً إلى الله عز وجل، ثم ما أجمل أن يكون هذا الإنكار في حدود الأدب والرغبة الصادقة في رد المخالف عن رأيه، مع السعي لتأليف قلبه وقلب أتباعه، وهذا لا يكون إلا بالرفق الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يعطي عليه ما لا يعطي على غيره.
في الختام لا أملك إلا أن أدعو الله سبحانه وتعالى أن يكون قد وفقني فيما ذكرت من أسباب ووسائل علاج لما تعانيه الساحة السلفية اليوم من انقسام يسر العدو ويحزن الصديق، فما كان من صواب فمن الله سبحانه وتعالى وبمحض توفيقه، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان وأنا راجع عنه وتائب إلى الله منه.