عودة الأمة لدينها وشريعتها حقيقة تبشر بها الأحداث . فإن هذه الأحداث تؤكد أن هناك روحاً جديدة بدأت في الأمة . فقد كان الناس إلى قبل الأحداث غارقين في حياتهم لايجرؤ أحدهم أن يعلن رأياً ولا ينتقد وضعاً ولا يطلب حقاً . كانت الشعوب تخاف من الحكام !! ثم فجأة تغيرت الرياح وإذا بالحكام يخافون من الشعوب !! حالة عجيبة لم يكن يتخيلها لا الحكام ولا الشعوب !! فأصبح الحكام اليوم يستعطفون الشعوب ويقدمون لهم التنازلات بعد التنازلات !! وهذا تغير سريع !! لكن الله عز وجل أراد أن يغير ذلك الوقع السابق فقوى قلوب الشعوب وألقى الهلع في قلوب الحكام الظلمة !! شيئ عجيب من فهمه فقد وفق ومن لم يفهمه فهو المخذول . انظروا إلى القذاقي وعلي عبد الله صالح وأخيراً إلى الأسد !! حالة يرثى لها وقد كان لديهم الوقت الكافي بعد أحداث تونس للتغيير!! ولكنهم مخذولون ومن أكبر أسباب الخذلان البطانة التي تبعد شبح الخوف وتطمئن الظلمة أنكم لستم مثل أولئك !! هؤلاء لم يقرأوا الحدث صحيحاُ . ولا يريدون لرؤسائهم أن يقرأوا الحدث قراءة صحيحة ولكنهم سيدفعون الثمن هم ومن غرروا بهم . هذه الروح الجديدة ليست روح الإسلام لكنها روح يقرها الإسلام . فالناس عاشوا مظلومين . مقهورين . مرعوبين . محرومين . فمطالبهم : رفع الظلم واحترام إنسانيتهم وأن يأمنوا من السلطة الظالمة وأن يحصلوا على حياة كريمة . وهذه مطالب لكل مواطن سواء كان مسلماً أونصرانياً أو غير ذلك . هذه المطالب ينمو فيها الحق ويستطيع الشخص أن يختار . والذين يشككون في هذه الروح بدعوى أن الناس لم تكن ثوراتهم ثورات إسلامية !! هؤلاء لم يحسنوا قراءة المشهد !! ولم يحسنوا استشراف المستقبل !! ونحن نؤكد أن هذه الخطوة هي القاعدة لعودة الأمة للإسلام بإذن الله عز وجل . وليس ذلك يعني أنها الآن ستعود لدينها إذ الركام الذي تراكم على المجتمعات المسلمة خلال عقود الاحتلال الداخلي للأمة قد ولد صورة مشوهة لدى كثير من أبناء الأمة كما أدى إلى ظهور شرائح في المجتمع تكره الدين لكثرة الدعايات المغرضة ضده . ولهذا فإن الأمر يحتاج إلى مراحل لكي تعود الأمة إلى دينها . فإن الأمة قد تآمر عليها أعداؤها وأبناؤها . ولعلنا هنا نرتب مراحل العودة مبتدئين بعرض مرحلة السقوط وماجرى بعده فأقول : المرحلة الأولى: هي المرحلة التي أعقبت مرحلة الاحتلال الخارجي للأمة . حيث تسلط على الأمة ((احتلال جديد)) هذا الاحتلال هذه المرة ليس من الأعداء بل هو من ((الأبناء )) فإن الأعداء تآمروا عليها حتى أسقطوا ((خلافتها)) . ثم مزقوا الأمة إلى أكثر من خمسين قطعة لكل قطعة زعيم ونظام. وقد حورب الدين في غالبية هذه القطع وكان جور الأبناء الذين حكموا هذه الأمة بعد رحيل الاحتلال الخارجي أشد من جور الأعداء . وقد تسلط هؤلاء الأبناء على الأمة وعلى دينها عقوداً طويلة حاولوا فيها طمس هوية الأمة محاربين كل صوت يدعوا إلى العودة إلى الدين وتحكيمه معتمدين على ميليشيات بوليسية أنشأوها لهذا الغرض . ولكن ما حدث في تونس ومصر من إسقاط هذه الميليشيات وما يحدث الآن في غيرهما من مواجهة معها فتح باب الأمل والذي لن يغلق بإذن الله عز وجل حتى تجتمع الأمة تحت راية الإسلام التي حاربها هؤلاء الآثمون . فهذه المرحلة ستكون مرحلة انفتاح وفهم للدين بعيداً عن التسلط الحكام الظلمة الذي سقط إلى غير رجعة إن شاء الله لا أنها ستكون لحكم الإسلام . ولهذا ينبغي للإسلاميين أن يعوا هذه المرحلة ولا يحرصوا على استلام السلطة حتى تنضج الأمة وتختار هي بالأغلبية الساحقة إن شاء الله تعالى هذا الدين . ولكن عليها أن تشارك في إنضاج ثقافة الاختيار والانتخاب وأن تحرص على اختيار الشخص الذي يهيء للمرحلة القادمة . المرحلة الثانية : نحن نعلم مدى الجهل والانحراف الذي أصاب الأمة في عهد الدولة التركية وأنها لم تعد بحالتها تلك مؤهلة للاستمرار حيث أهملت رعاية الأمة وشغلت عنها بالجيش والفتوحات بينما الأمة تتردى في مهاوي الجهل والبدع والخرافات. وسنة الله عز وجل في الدول أنها تشيخ وتمرض وتموت ولكل تلك النتائج أسباب إذا توافرت تحققت النتائج لكن الأمة الإسلامية لا تموت نعم قد تمرض لكنها لا تموت لأن الله عز وجل أخرجها لتبقى إلى قيام الساعة كما جاءت بذلك النصوص. أما الحكومات فتسري عليها السنن الإلهية السابقة فقد شاخت الحكومة العثمانية ثم هرمت ثم مرضت ثم ماتت . ثم ورث الاستعمار تلك التركة العثمانية ومزقها كل ممزق وسعى خلال احتلاله لها إلى إفسادها , ثم سلم التركة لصنائع صنعهم هو على عينة ثم توارث هؤلاء الصنائع الأمة يسيمونها سوء العذاب ويحاربون كل صوت للإصلاح وهم يقتاتون على أموال الشعوب وقد ركنوا إلى ميلشياتهم التي أنشأوها لحمايتهم وحماية أنظمتهم وأشركوهم في ما سرقوه من أموال الأمة فأصبحت تلك الحكومات أشبه ما تكون بعصابات تتقاسم الأموال المنهوبة وتقمع كل من ينكر عليها أو يحاول تغيير هذا المنكر العظيم. لكن في المقابل قد نمت المعرفة واتسعت دائرة الثقافة وتغيرت الظروف فتراءت المجتمعات وانكشفت الساحات وظهر ت أساليب التعامل بين الحكومات والشعوب فأحس المسلمون بالغبن لما يمارس عليهم من قهر وإذلال بينما غيرهم ينعم بالعدل والحرية والمساواة هكذا يتراءى لهم إذ المسلمون هم الذين ينبغي أن يصدروا العدل والمساواة والحرية ولكنهم أصبحوا أيتاماً في ساحتها وإذا بالغرب الكافر هو من يتصدق عليها بالنصائح لجلاديها بالرحمة بشعوبهم واحترام حقوقهم . فثارت الغيرة في نفوس هذه الأمة وقررت أن تتخلص من هذه العصابات ولو كلفها ذلك أشق التكاليف. فخرج بعض الشعوب في مظاهرات سلمية ينادون برحيل الظلم وأهله فواجهتها تلك العصابات بقسوة وعنف قتل فيها من قتل ثم كانت العاقبة للشعوب . ثم سرت عدوى تلك المظاهرات إلى كثير من الشعوب العربية التي كان لها النصيب الأكبر من ذلك الظلم. فسقطت تلك العصابات وهاهي تتساقط عصابة بعد عصابة وتختلف التضحيات من بلد إلى بلد بحسب قوة العصابة وشراستها ولكن النهاية ولا شك هو في صالح الشعوب المظلومة. فهذه هي المرحلة الثانية: مرحلة التخلص من الظلم واستعادة الكرامة والأموال المسلوبة والحصول على جو الحرية الذي سيعطي الفرصة للناس أن تعرف الحق وتختارماتريد . ففي الماضي كان الفساد مفروضاً في الإعلام والسياسة والاقتصاد والاجتماع وكل من أراد الخروج على هذا الفساد فمصيره السجن والعذاب والقتل . كما أن تلك العصابات قد شوهت الدين وخوفت الناس منه. والآن فتح باب الحرية وأصبح بإمكان كل شخص أن يعرف الحقيقة ويختار وليس هناك من يفرض عليه رؤيته ولا من يعاقبه على اختياره. فالآن يمكنه أن يعرف دون ضغوط أو تهديد وبإمكانه أن يختار دون ضغوط أو تهديد فالآن تمكن كل شخص أن يتعرف على دينه وأن يختار . فهذه المرحلة مرحلة المعرفة والاختيار ولا شك أن الشعب بكامله أو غالبيته سيختار الدين عن رغبة واختيار . فهذه المرحلة مرحلة الحرية والمعرفة وليست مرحلة حكم الإسلام . المرحلة الثالثة: هذه المرحلة تأتي بعد فهم الأمة واختيارها لدينها عن طوع واختيار . وهنا ستتنافس الأحزاب على تقديم البرامج التي تحقق هذا التطلع الشعبي الذي سيختار أن تحكمه شريعته . فلم تعد هناك حكومات مستبدة تحول بينه وبين اختياره . ولم تعد هناك حكومات مستبدة تحول بينه وبين شريعته . بل الجميع قد اختار الشريعة وتشربها فلا يرضى بها بديلاً. هذا إذا أحسنت الاتجاهات الإسلامية تقديم الإسلام في صورته الناصعة ولم تتصارع فيما بينها كما كانت من قبل فتتسبب في نفور الناس من الدين بسبب صراعها . فإن الاتجاهات الإسلامية قد تصارعت في الماضي وحاول بعضها إسقاط البعض الآخر إما من خلال الانتقاص والتجريح وإما من خلال الاتهام والتشكيك. فإن أدركت هذه الاتجاهات خطورة المرحلة واستوعبت الدروس وتعاونت على الخير وتحاورت فيما وقع فيه الخلاف مع الاحتفاظ بحقوق بعضهم البعض وإلا كانت ممن يصد عن دين الله عز وجل وستكون هناك مرحلة جديدة ليست كالمرحلة السابقة . بل هي مرحلة ثورة … ثورة على الدعاة المفرقين للأمة. فتقوم ثورات جديدة لا كالثورات السابقة ولكن ثورات علمية دعوية تتحد على الأصول وتعذر في المسائل الخلافية . فيتجدد بذلك الدين من خلال تلك الثورات . المرحلة الرابعة : بعد أن تعيش الأمة في ظلال دينها وشريعتها فإنها ستتوق نفوسها إلى وحدة الأمة الممزقة وعندئذٍ سيتنادى قادتها وعقلاؤها إلى تكوين الأمة الواحدة. فإما أن يشكل مجلس من كل قادتها بحيث يتناوبون الحكم أو يبقى كل حاكم حاكماً على ما تحت يده ولكن تحت رئيس هم يختارونه من بينهم فتكون الأمة أشبه ما تكون بالولايات على النحو الذي تعيشه الولاياتالمتحدةالأمريكية اليوم . فتكون الولاياتالمتحدة الإسلامية . طبعاً إما أن يتحقق هذا من خلال الزعماء الصالحين الذين اختارتهم الشعوب المسلمة . وإما يتحقق من خلال الضغوط الشعبية التي وصلت إلى درجة من الوعي لم تعد تتحمل تفريق الأمة . هذا ما استشرفه لمستقبل هذه الأمة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون وهو ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرر هذه الرؤية . فقد روى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، حديثاً قال فيه : كنا قعودا في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بشير رجلا يكف حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج نبوة "رواه أحمد وصححه الألباني وحسنه الأرنؤوط .