بينما أنا منهمك في كتابة مقالي الأسبوعي، بعدما اختلست ساعة واختليت بنفسي في مكتبتي بعد يوم طويل شاق، وإذ بصغيري الذي لا يتجاوز عمره الثمانية أعوام، يخطو نحوي خطوات بطيئة، فلم أشعر به إلا عندما ارتفع صوته وهو يتلعثم في قراءة كلمة في مقدمة المقال – المبالغة – وسألني بصوت يملؤه الشغف كعادته؛ ماذا تعني بالمغالبة هذه يا أبتي؟ مثلما نطقها صغيري، فضحكت من طريقته، وصححت له نطقه وأجبته بأنها المبالغة وليست المغالبة، وقلت له المبالغة يا صغيري تعني التكلف وتهويل الأمر أو تضخيمه وتعظيمه أو تعقيده.. وظل يسأل وأنا أجيب كأني في تحقيق رسمي، ولم ينقذني من أسئلته إلا والدته وهي تضع أمامي فنجال القهوة. بدأت تتصارع بداخلي كإعلامي العديد من التساؤلات بعدما خرج صغيري مع والدته من الغرفة وتركوني أكمل ما بدأت.. هل كنت مبالغاً مع صغيري؟ وهل كانت إجاباتي عليه وافية؟ هل فهم ماذا أقصد حينما كنت أجيبه؟ وماذا عن الآخرين الذين لم يجدوا من يفهمهم؟ وكيف حال الملايين أمام شاشات التلفاز.. وصفحات الجرائد.. وأجهزة المذياع؟ أيفهمون ما نكتب أو نقول؟ وكيف ينظرون إلينا حينما ننقل لهم الخبر أو الرسالة أو المعلومة بهيئتنا هذه؟ أنحن الإعلاميون مبالغون حقاً؟ بحثت عن أجوبة لتساؤلاتي هذه في قاموس معرفتي فلم أجد غير البساطة، فالبساطة سر علاقات الود والحب بينك وبين الآخرين.. وهي الجسر الذي يربط بينك وبين جمهورك، والبساطة في معجمنا اللغوي هي وسَطٌ بين التكلُّف واللامبالاة، فالتكلف إرهاق مادي ومعنوي، واللامبالاة لُؤم وسوء أدب. بساطتك لا تعني السذاجة، أو التقشف، بل هي طريقة تفكير سهلة مريحة تثمر عن إنسان سهل متعايش.. إنسان مبدع؛ لأن الإبداع في التبسيط.. وليس في التعقيد، والبساطة ببساطة تعني الوضوح والسهولة والواقعية وهي ضد التشبّع والتنطع والمبالغة، وأكبر وأصرح وأنبل من التواضع الكاذب والزهد المزيف. برأيي البساطة هي حصن الأمان لكل إعلامي، تحميه من الوقوع في براثن التهويل والتعقيد والمبالغة في المظهر والجوهر، فكلما كانت طريقتك بسيطة خالية من التعقيد، والمظاهر المبالغ فيها، كلما استطعت الوصول إلى هدفك من أقصر الطرق؛ لأنك ستكون وقتها في قمة تركيزك، ولن تنشغل بما يبعدك عن هدفك الأساسي. بساطة الأسلوب والبعد عن التكلف والغلو في الطرح والعرض من أهم سمات الإعلامي والتي تقربه من الناس، فالبساطة صفة طيبة وخلق قويم ينبغي على الإعلامي أن يشعر بها المحيطين به وإلا انصرفوا عنه وبحثوا عن من هو بسيط، ويبعد عن التهويل والتعقيد والتكلف، أفلم يعلم الذين يصروّن على التكلف أنهم يحرمون أنفسهم من نعيمٍ لو يعلم به الملوك والتجار لاشتروه بأنفس الأثمان وهو ألفة الناس ومحبتهم، أما التكلف فلو كان يُشترى لعُدّ في السفهاء من يَشتريه ويحق لوليه أنه يحجر عليه! باتت الحاجة إلى نشر ثقافة البساطة بيننا كإعلاميين قائمة، وخاصة مع إصرار البعض منا على نسيانها وإهمالها، فالبساطة هي أعلى مقامات النضج.. وهي أرقى درجات الحكمة.. وهي أسمى مراتب العبقرية، فانشتاين قال قديماً: “إن لم تكن قادراً على شرح فكرتك لطفل صغير؛ فهذا يعني أنك لم تفهمها بعد”. وهنا ناديت على صغيري وبدأ الحوار من جديد..