- الرأي - نعمة الفيفي - جازان : عندما قَدِمتُ إلى أرضِ المسارحةِ مُعلمًا، كنتُ شابًّا صغيرًا في الثامنةِ عشرة من عمري، تعلمتُ أُسسَ التعليمِ في المعهدِ الجامعي المسمى معهد إعداد المعلمين في جازان، سلَّموني خطابًا كي أباشرَ عملي معلمًا في مدرسةِ رعشة الابتدائية، كان الوقتُ قريبًا من الظهر، وأنا خارجٌ من مبنى الإدارةِ العامةِ للتعليمِ تمزَّقَ حذائي، ولم يكن أمامي من خيارٍ سوى أن أشتري أطرفَ حذاءٍ من أطرفِ بقالةٍ بعد أن أغلقتِ المحلاتُ أبوابَها، انطلقتُ إلى رعشة ووُصِفَ لي الخزَّانُ المجاورُ لها، نزلتُ من الطريق العام متحدِّيًا الطريقَ الترابي الرابطَ بين المدرسةِ الصغيرةِ والطريقِ العام، كان معظمُ المعلمين قد غادروا المدرسةَ باستثناءِ المديرِ الفلسطيني عبدالمحسن عبدالجبار الذي كتبَ لي المباشرةَ وعينُه إلى هذا الفتى النحيلِ الذي ينتعلُ (زنوبة) خضراء مقاس ٩، تسلمتُ الخطابَ وأعدتُه في اليوم الثاني إلى إدارةِ التعليمِ، وبدأتُ رحلةَ التعليمِ في رعشة الابتدائية في ٢٦ ذي الحجة ١٤٠١ه، مع كوكبة من المعلمين العرب صحبة زميل دراستي ورحلتي محسن رياني، فعُهد إليَّ أن أقومَ بتعليم تلاميذِ الصف الثاني الابتدائي أطفالًا صغارًا تحتفظُ ذاكرتي بأسمائهم الثلاثية والرباعية إلى الآن فضلًا عن أسماءِ كثيرٍ من تلاميذِ المدرسة، وعلى رأسهم الكاتب والقاص والأديب سلطان منقري الذي كنتُ أُشرفُ عليه بين حينٍ وآخر في إذاعةِ المدرسة وهو في الصف السادس الابتدائي، بدا لي في رعشة كلُّ شيءٍ جميلًا ؛ بساطةُ أناسها وروعُة أرضها، ورزاوي دخنِها، وطعمُ الفول الذي كنا نتناوله كلَّ يومٍ على مائدةِ إفطارها، رحلَ عن دنيانا مِن سكانِها بعضُ رجالها الطيبين منهم عمي سلطان طروش وقبله أبو محمد العم علي سلمان، أمضيتُ عامًا واحدًا لم أنسَ على الرغمِ من مرورِ أربعة عقودٍ وأربعةِ أعوامٍ نجابةَ طاهر طوهري ويحيى طوهري ومحمد محزري وإدريس طوهري وجبران داحش وبقية زملائهم الرائعين، وبقيتْ رعشةُ المسارحةِ في ذاكرتي أرضًا وإنسانًا وتعليمًا وتاريخًا، والليلةَ سأعود إلى ديارِ المسارحةِ أديبًا أنشجُ من وحيها ذكرياتي، وأستعيدُ قطْفَ الحروفِ البكرِ التي تعلمتُ أصولَ القطفِ في خبتِها وأراضيها، وعندما أسردُ على شذى زجاجةِ عطرٍ زرقاء فإن للمسارحةِ نصيبٌ من تاريخِ هذا الشذى الذي سيظلُّ ملتصقًا أستروحُه بين وقتٍ وآخر، وفي الختام أشكر ل(أسمار) الشريك الأدبي إتاحة هذه الفرصة من أجل أن أعودَ للحضن الذي ضمَّني صغيرًا، وضمَّ معي حروفي البكر كي تنضجَ وتنبتَ وتزهرَ من جديدٍ على أرضِ دارٍ من دياري الغالية.