رضا المليح، بطل الرواية التي أبدعها إبراهيم الوافي، شيوعي من الجزيرة العربية يفتح كثيرا من الأسئلة حول قابلية المجتمع للاختراق في احتكاكه بالعالم من حوله، ربما كان ذلك متخيلا في سرد إبراهيم الوافي لروايته الأخيرة «الشيوعي الأخير»، ولكن الرواية باعتبارها منجزا له أبعاده الاجتماعية تفرض علينا متخيلا شيوعيا ملحدا. سقطت الشيوعية ولكن الوافي يصعد بالمليح كشيوعي أخير ليستعيد شيئا ما في ذاكرة العولمة، ولا شك في أن الذاكرة تستعيد ما قاله عباس العقاد عن الشيوعية بأنها مذهب ذوي العاهات، ما يجعلنا نفترض أن المليح معتوه، وذلك يقودنا إلى مساءلة الوافي والبحث في تفاصيله الإبداعية، الأمر الذي رآه محاكمة له ولروايته: الشيوعية فكرة منقرضة ولها غربتها الاجتماعية لدينا.. لماذا اخترتها؟ ربما بسبب هذه الغربة، أو حتى بسبب عدم منطقيتها في مجتمعنا أو حتى لأنها فكرة منقرضة.. هكذا هو العمل الفني لا يتكئ كثيرا على الحقيقة. فضلا عن أن الشيوعية بما لها وعليها كانت من أكبر الثورات الإنسانية التي تركت ملامحها المتباينة على وجه القرن الماضي بوجه عام.. لكنها على الوجه الخاص في الجزيرة العربية تبدو مثيرة ورحما حيويا لنص روائي. هل يفهم من عنوان الرواية أن هناك شيوعيا أو لا؟ شخصية رضا في الرواية كما تبدو هي أول الأخير وآخر الأول. اعتنق الشيوعية وهما واجترعها ألما وعاشها هما، فالصفة هنا تتجاوز المباشرة. وبالنظر إلى الفترة الزمنية التي عاشها البطل وهي كما يبدو العمر الافتراضي المتوقع للشيوعية في جزيرة العرب ستكشف لنا ببساطة أن الشيوعي الأول هو ذاته الشيوعي الأخير وهذا كما أفترض هو مكمن الغرائبية في النص. شيوعي أول وأخير تفترض وجود هذا التيار في الجزيرة العربية.. هل تؤرخ للشيوعية؟ لماذا تحاولين الخروج بالعمل عن مساقه الفني؟ للتخييل النصيب الأكبر فيه، وبالتالي يخرج عن التأريخ أو حتى التوثيق لمرحلة وإن كان وجودها واقعا مثبتا، مع الملاحظة أن شخصية البطل مهزوزة نفسيا، ما جعل العمل يأخذ أبعادا فنية رؤيوية أكبر من التاريخ، وأعمق من التوثيق.. لأنها تحمل وتحتمل إسقاطات فكرية معاصرة اقتربت منها الشيوعية أحيانا وابتعدت عنها بسبب غربتها. من الصعب إعراب الشيوعية فكريا في مجتمعنا.. كيف وجدت فضاء لروايتك إذن؟ ربما كان من الصعب إعرابها كما تشيرين، لكننا كذلك لا يمكن أن ندعي أنه لا محل لها من الإعراب. فالشيوعية فكريا وجدت في مجتمعنا وأكاد أقول بجرأة إنها لا تزال موجودة تبعا لاتصالات هاتفية مثيرة تلقيتها من أناس مجهولين وبشكل متباين وطريف ومثير للغاية، فقد بقيت على سماعة هاتفي أكثر من ساعة أناقش وأبرر وأدافع وأتلقى الشتائم والثناء في آنٍ واحد. وأصدقك ما جعلني استمر في كل ذلك هو شعوري بنشوة العمل وانعكاسات أثره في هؤلاء، أما عن فضاء الرواية فبمجرد الإيمان بأن ثمة شيوعية كانت هنا في هذا المجتمع الذي أحكم إغلاق دائرته على ذاته دائما، وفي عصر لا يكاد الآخر يصلنا فيه إلا عن طريق شعارات نتلقفها منه فضاء رحب ومتسع للتخييل وهذا أكثر ما احتجته في العمل. رهانك على المفارقة الشيوعية ليس كافيا لإبداع رواية.. ألم يجرفك تيار الغرائبيات التي تضج بها الرواية السعودية المعاصرة؟ أيضا لا تزال محاكمة العمل فنيا تقتطع نصف سؤالك هذا في حين أن نصفه الآخر مساحة للرؤية.. الغرائبيات في الرواية السعودية المعاصرة في «رأيي الخاص جدا» بين فئتين: فئة اتكأت على اللغة الإبداعية كرحم تتخلق فيه الأحداث، وفئة أخرى اتكأت على المسكوت عنه في مجتمعنا وهي سلسلة الروايات «الفضائحية» إن صح التعبير. ومن خلال كلتا الفئتين حاول خلق عالمه الكتابي بما يضمن له الحضور والتأثير. وإن كان هذا ما نعنيه بالغرائبيات فلا بأس من إضافة غرائبية التاريخ المعاصر في مجتمعنا المحلي، وليكن وجود الحركة الشيوعية في وسط الجزيرة العربية أحد نماذج هذه الغرائبية التاريخية. روايتك تستحق المحاكمة لأن العالم بأسره حاكم الشيوعية ونأى عنها وهي اليوم بعيدة عنا بأعوام ضوئية.. بماذا تدافع عن نفسك بإنتاج رواية رجعية؟ الكتابة أثر أخلد من حياة تتجاوز الزمان والمكان، هذه حقيقة. والتاريخ يكتبه المنتصرون دائما، وهذه حقيقة أخرى على مستوى الطرح التوثيقي الصرف، لكن العمل الفني يخلق زمنه وتاريخه وبهجته وملامحه وقدرته على التعايش مع اللحظة المستدعاة أيا كانت قيمتها الإنسانية التي هي غايته، ويقاس النجاح أو الفشل على مدى قدرة المبدع على تحقيقها. أما عن المحاكمة فعلينا أن ندرك أن الأعمال الفنية لا تحاكم أخلاقيا حينما يجب أن نحاكمها فنيا. الرؤية البيئية في المكان والشخوص والتشابك الفكري لا يكفيك لتمرير الماركسية المحلية إن صح التعبير. كنت مكشوفا في الحبكة السردية، ما تعليقك؟ هذا رأيك. ولا يمكنني الاستسلام له سلبا، حين أشير إلى أن هذا الارتباك في المكان والشخوص والتشابك الفكري جزء مهم جدا من ملامح العمل لأنني اعتقدت دائما أنها إرهاصات مهمة تشي بما يليها من أحداث تخلق فيها الفكر الماركسي المزعوم ربما..! لماذا خلعت حياء اللغة في بعض المنعطفات؟ لأن هذا ما تطلبه الموقف النصي: «الفحش اللغوي» أحيانا. وقد ورد دائما في سياق حكايات قصيرة تخللت السرد، ولا يمكن أن تتبلور تلك الحكايات إلا بالمباشرة اللفظية نصا، ومع هذا فقد استفدت من نظرية التشكيل البصري للدكتور الصفراني من خلال تفريق حروف المفردة الخادشة حتى لا أفاجئ المتلقي بها وقد أصدمه بفحشها أحيانا. بناء التقنية السردية على حساب اللغة.. أليس خروجا على التابو اللغوي؟ أصدقك كانت «الشيوعي الأخير» عقدة الشاعر على مستوى اللغة.. فقد هربت من مجموعاتي الشعرية السبع، نحو لغة سردية مباشرة أحيانا لم تستفد من القدرات الشعرية إلا في مواطن قليلة جدا. لكنها على قلتها اعتقدت دائما أنها جاءت مفصلا على مستوى الرؤية مثل مزج التاريخ بالجغرافيا في افتتاح الرواية هكذا: «رضا ابن القرية التي تبعد عن الرياض نحو 45 سنة..»، فاللغة الشعرية الرؤيوية وحدها هي ما أتاح لي هذا الاختزال في المكان والزمان. وعليه فإن التنويع في آلية السرد أحد مكونات النص. كل شيوعي متمرد تلقائيا على ذاته ومجتمعه، فإما أنك شيوعي أو شيوعي.. ما صحة ذلك؟ لكل منا مفهومه للشيوعية من أول كارل ماركس حتى «رضا المليح»! أما عني فلست إلا شاعرا كثيرا وروائيا أحيانا وفي كليهما أب لثلاثة أطفال أحمل لهم الخبز كل ليلة وأغفو بينهم فنحلم جميعنا بصباح العصافير. الشيوعي صنم يقضي وقته في تحطيم غيره من الأصنام، كما أنه لا يبني شيئا.. هل أوصلت الفكرة الحقيقية للشيوعية أم تحايلت على مساوئها وعوراتها التي لا تنتهي؟ ربما كان هذا رأيك وحدك، إذ لم تشغلني عملية الإقرار أو العظة أو العبرة في العمل لأن استهدافها يخرجه عن مساقه. لم تكن الشيوعي الأخير إلا سيرة افتراضية متخيلة استوعبت شيئا مني بمعاونة التاريخ والأحداث، وقصرت فيها عن أشياء كثيرة، وهذه المحاولات أو حتى القصور دونها أحد أهم مميزات التجربة الإبداعية المستمرة التي تموت دون أن تكتمل في مرآتها الخاصة. ما الذي فاتك في سرد الرواية؟ قليلا من الصبر، وبعض الاستزادة في التفاصيل، لكنني أصدقك لسعتني جمرة السرد الطويلة مقارنة بالقصيدة، وأظنني لم أطق صبرا عليها، فارتجلت بعضي فيها للخلاص من جحيم تلبس الشخصية واستقصاء السيرة .