حين يكف القلم عن الركض في متاهات اللغة، ويحلو للقريحة أن تستريح من وعثاء الشعر والقصة، تتوقف الذات في محطة لتحريض الحنين واستذكار الهوى.. هي لحظات استرخاء ذهني قد نسميها فاصلا منشطا، حيث يعن لأسماعهم أن تخلد إلى صوت مفضل يتقاطع مع الذائقة في مفترق وجداني صاخب أو هادئ تبعا للمزاج الآني المتقلب.. هو المفترق نفسه الذي انتظرهم في جنباته الزميل علي السبيعي ليتلصص على ذوقهم في اختيار الأغنية والمطرب: مثلما تختلف طقوس الكتابة بين مبدع وآخر، تتباين طقوسهم في الاستماع أيضا، فالشاعر محمد زايد الألمعي يرى أن الموسيقى مصدر إلهاء للذهن، فهي تشغل الكاتب عن استيلاد الفكرة، لذلك يفضل الألمعي الركون إلى الموسيقى وحدها بعيدا عن الكتابة وأهوالها: «الموسيقى تحتاج إلى انسجام كامل كي نشعر بها، فأنا أسمعها في لحظة صفاء ذهني، لذلك أفضل أن أكون وحيدا في تلك اللحظة». وإذا كانت الموسيقى تتطلب تفرغا روحيا لدى الألمعي، فهي لدى الكاتبة سمر المقرن جزء حيوي من طقوس الكتابة: «أحب أن أستمع للموسيقى أثناء الكتابة، فأشعل الشموع وأعيش حالتي النفسية والكتابية الخاصة التي تساعدني على طرح ما لدي من هم ثقافي، سواء كان الموضوع مقالة أو رواية». وبين أن تكون الموسيقى مصدرا بذاتها أو محفزا مترافقا مع التأليف، يقف الكاتب علي الشدوي الذي يتخذها محطة انطلاق نحو الإبداع: «قبل الكتابة لا بد أن أعيش حالة انسجام نفسي مع الموسيقى كي أحشد ما في داخلي من هم كتابي». بين المطرب والأغنية تستعذب المقرن الاستماع إلى أم كلثوم في ليالي الشتاء الطويلة: «هو فصل يليق بصوتها الدافئ وأغنياتها المطولة»، دون أن يتعارض ذلك مع المقولة الشائعة بأن القهوة الصباحية ناقصة دون فيروز: «هي بداية يومي، ولم يبالغ من قال إن فيروز قهوة الصباح». ويتجه الألمعي في تقييمه لصوت فيروز إلى منحى عميق، فهو يدين لأغنياتها بتكوينه الوجداني: «أشعر بأن أغاني فيروز وخاصة الأعمال المسرحية ولوحاتها الرائعة قريبة من الريف في جنوب المملكة». لكن فيروز تبدو في نظر الألمعي علامة للتظاهر أحيانا: «فهناك من يتشدق بحب فيروز ليظهر أنه مثقف»!، وهو يميل في شطحة بعيدة وغير متوقعة إلى الأغنيات اليمنية التي يعتبرها مخزونا تراثيا هائلا متأسفا على ضياع بعضه واستلاب بعضه الآخر: «تعرض هذا المخزون لكثير من السطو من أدعياء الموسيقى، وتجدني مشدودا لمطربين كثيرين أهمهم محمد مرشد ناجي وأيوب طارش». وبعيدا عن الأوقات والأجواء، ترى المقرن في تقييم عام لصوت طلال مداح أنه أسطورة لم تطأها أذن بعد: «هنالك معالم فنية ثرية في حنجرة طلال لم تكتشف حتى الآن». ولا يبتعد الشدوي كثيرا في تبجيل طلال مداح: «مع احترامي للجميع هو أفضلهم، فطلال، يصلح لكل الأوقات». موقف من الفرقعة بعد هذه الآراء التي سطرت إعجابها الواضح برموز الفن العربي الأصيل، هناك من يستهويه الغناء الذي تقدمه الأجيال الشابة هذه الأيام، فالمقرن تستلطف أغنيات نانسي عجرم، وتحب الاستماع إلى كارول سماحة وإليسا: «فهما مجتهدتان وأفضل الموجودين». من جهة أخرى، يستظرف الألمعي نانسي عجرم: «صوت جميل وفنانة خفيفة الظل على الأذن والعين»، لكنه يرى أن «هيفاء وهبي مغنية وليست مطربة»، ويعجبه من الجيل الجديد لطيفة وأنغام: «أجد في صوتيهما شجنا، وفي بعض أعمالهما اختيار جيد». لكن الشدوي يستهجن الأصوات الشابة رغم استماعه إلى بعض أغنيات عباس إبراهيم: «هذه الأصوات ظواهر طارئة وعابرة ونوبات فنية مؤقتة»، وهو يتنبأ باندثارها مع مرور الوقت: «صدقني بعد عشرة أعوام سوف تنسى هذه الأصوات تماما لأنها تقدم طرب الجسد لا طرب الروح». وتتفق المقرن مع الشدوي جزئيا حين تشير إلى البعد الراقص الذي طغى على الأغنيات الجديدة: «هي أغان لترقيص الأرجل وليست للطرب الجميل رغم وجود استثناءات رائعة». مشروع مطرب لم يكن متوقعا أن يقترب الأديب من الغناء إلى حد تجريبه، فالعلاقة الظاهرية بين الطرفين تبدو أحادية الجانب لولا بعض الأسرار التي اكتشفناها خلال هذا الاستقصاء، فعلمنا أن الشدوي دفعه ولعه بالعود إلى أن يتتلمذ على يد عازف شهير ليجيد بعدها دندنة الأغنيات التراثية الخاصة بمنطقته!. وأسر لنا الألمعي بأنه فشل في تعلم العزف على العود، فاستعاض بالعلم النظري وتكونت لديه ثقافة موسيقية معقولة أهلته ليكون ناقدا جيدا يتبين مواطن الخلل في غناء الآخرين!. وكشفت لنا المقرن أنها تلقت دروسا في الموسيقى خلال المرحلة المتوسطة لتعلم العزف على الأورج، لكن مشاغل الحياة والكتابة أقصتها عن هذه الهواية الأثيرة وحرمتها من مزاولتها مع أن الحنين إليها يعاودها بين فترة وأخرى. هي محاولات تبقى طويلا في الذاكرة.. لا لأنها طفولية فحسب، بل لأنها وجدانية وروحية كذلك .