مصطفى محمود، ذلك الفنار الذي ظل ينشر ضوءه دليلا للمبحرين، بكل هدوء ورسوخ، رحل إلى الدار الآخرة (يرحمه الله) عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، قضاها في البحث والعلم والترحال في سبيلهما، وفي خدمة الخير. وُلد مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ (من الأشراف) في 27 ديسمبر 1921، وفي تلك السنة نفسها توفي أخوه التوأم له. وبعد سنوات من الشلل توفي والده عام 1939. ترك المدرسة بعد أن ضربه مدرس اللغة العربية، وانقطع عنها لمدة ثلاث سنوات، ولم يعد للدراسة إلا بعد انتقال ذلك المعلم إلى مدرسة أخرى؛ فأنشأ في بيت والده معملا يُجري فيه تجارب علمية، ويشرِّح الحشرات. تخرج في كلية الطب، جامعة القاهرة، عام 1953، لكنه تفرَّغ للبحث والكتابة والتأليف عام 1960. تزوَّج بعد ذلك بسنة، ولكن انتهى ذلك الزواج بالطلاق عام 1973، بعد أن رُزق منه بأدهم وأمل. تزوج ثانية عام 1983، لكن هذا الزواج لم يستمر أكثر من أربع سنوات؛ إذ انتهى بالطلاق. ولعل هذا ما دعاه إلى رفض الوزارة التي عرضها عليه الرئيس الراحل أنور السادات قائلا: “لقد فشلت في المؤسسة الصغرى (يقصد الزواج)، فكيف سأنجح في الوزارة؟ أنا أرفض السلطة بكل أشكالها”. يقول في كتابه (رحلتي من الشك إلى الإيمان): “أنا لم أُلحد، ولكن لأني نشأت في تلك الفترة التي خرجت فيها التيارات الفكرية، من وجودية وفلسفية والثورات العلمية القائمة على البرهان والتجريب، سِرْتُ مع الموجة، وأردت أن أبحث وأبرهن وأختبر شيئا هو موجود لدي أصلا، كما أن كل ما في الكون يُثبت أن له خالقا فردا، هو الذي يستحق العبادة”. فأخذ ذلك البحث منه ثلاثين عاما، تنقل فيها بين معابد الهند ومجاهل إفريقيا والغوص في الكتب والمراجع وخلوات التأمل والتفكير الذاتي، إلى أن رست به سفينة البحث على المرسى الذي انطلق منه، مرسى الإيمان والفطرة. خلال تلك الفترة قُدِّم للمحاكمة على كتابه (الله والإنسان) بطلب من الأزهر، وانتهت المحاكمة بمصادرة الكتاب ومنعه، وذلك في عهد الرئيس جمال عبدالناصر؛ فأذن الرئيس السادات بإعادة طبع الكتاب، وكان من المعجبين به وبفكر الدكتور مصطفى. كان لنشأته في طنطا بجوار مسجد السيد البدوي، وهو مزار للصوفية، أثر في فكره. وصلت مؤلفاته إلى 89 كتابا، تنوعت ما بين الفكر والأدب والعلم. اتسم طرحه وأسلوبه ولغته بالهدوء والرصانة والوضوح. قدَّم برنامجا علميا رائدا هو (العلم والإيمان)، عندما عرضه على التلفزيون وقتها رُصد له 30 جنيها للحلقة فقط؛ ما عرَّضه للفشل من البداية، إلى أن تدخل أحد رجال الأعمال وتبنى مشروع البرنامج؛ فنجح وانتشر صيته على مدى سنوات. تميَّز البرنامج بأسلوب الدكتور مصطفى وتعليقه على الفيلم المصاحب بأسلوبه البسيط والمحبَّب وابتسامته العفوية، إلى أن أُوقف للأسف بعد أن سجل أربعمائة حلقة. رحم الله هذا الفنار، وأسكنه فسيح جناته.