دوما يبقى شاعرنا يزرع الأمل والحنين جنبا إلى جنب، يحن إلى حارة عتيقة ما زالت تحتفظ برائحة الشغب الأولى، وتبقى حكاية الحي القديم مرادفة لحكاية الحب الأولى، ومراحل الصبا تماما ك(غبيرة) أحد أقدم أحياء العاصمة السعودية، حيث يجعل الشاعر ذاكرته تعود للمكان المظلم المهجور في الواقع والمضيء في الذاكرة: (غبيرة) يا زمان الشعر وعروش الصبا والغي سلام من الحنين اللي قفل موته على اكتافه يا حيٍ كنت “حيّ” وصرت في عيني مجرد حي سكك.. ماتت حنين.. وليل عربد في السما.. تافه سقى الله يوم نبغى كل شي.. ولا تحقق شي سقى الله يوم يحرقنا الغرام.. ونحرق أطرافه! سقى الله يوم جات وكنت أردد: هي؟.. ما هي هي؟ بغى قلبي يكذّب وصفها من هول ما شافه! وصل فيها الغنج حدّه.. وجت تمشي شوي.. شوي وانا خابر حبيبة خاطري خجلة وخوّافة يلاعبها (الهوى) مثل (الهواء) وتطيح بيد يدي مثل غصنٍ يميل ابه الثمر ليدين قطّافه! وإن قلنا من قبل إن محمد علي العمري يُربّي السرد بلغة شاعرية، فلا يفوتنا هنا أن نمارس الذهول من سينمائية الشعر، فأين ستكون الكاميرا لو أرادت أن تحول صور نصوص محمد إلى مشاهد مرئية؟ وأي خلفية موسيقية تستطيع أن توحي للمتلقي بأن القلم ما هو سوى ناي يرتّل حشرجة أنفاس الشاعر، وتمتد الصورة حتى تتحول عروش الثمر من حلم للجني إلى حلمها هي لجني الشاعر وشنقه: غريبة كيف يصبح هالقلم بين أصبعيني ناي وانا انفاسي ليا قمت أتنفس كني اسرقها! هي أشيائي كذا متفلسفة.. لكن عديمة راي رعدها في سماها ما يجاوب نوض بارقها حنين.. وغرفةٍ تشبه لصدري يوم ماج بكاي تنامى في زواياها القصيدة وأعجز انطقها! *** بساتينٍ على مد النظر.. تشرب حزين غناي وإذا حان الثمر قامت تدلّى لي مشانقها! وإن بدأ الشعر شاحبا في أغلب أحايينه، إلا أنه لا يخلو دوما من كروم الدهشة اليانعة والشغب اللذيذ، بالضبط كتلك الطفلة التي حسبت أن الحزن الذي كبّل يدين شاعرها يخبئ هدية مفاجئة: طفلةٍ ساكنة ما بين رمشي وعيني كل ما نمت جابتها الحلوم النديّة جيت والحزن شابك خلف ظهري يديني وجات تضحك تحسب أني مخبئ هدية! ويقينا أحلام هذا الشاعر أكثر أناقة من الصحو وأكثر دفئا ورحابة، كما هو الشعر بالنسبة له، طريق يغري الارتحال به، فالشاعر يجيد الارتحال، لكنه غالبا لا يحدد النهاية وربما حتى الوجهة، فالدروب هي ذاتها الجهة والوجهة: الشعر دربٍ إلى مني طرقته فرحت ما له نهاية.. وأنا ما قد هويت الحسم! هو بيتي اللي لو أنه ضاق بي ما برحت لو أتشكل على دروب الغنا وارتسم! ويظهر انفعال المحب دوما من محاولة الآخرين التفكير نيابة عنه بعقل، وهو الذي يقرأ دروبه بعاطفة، فيما يلبث أن يختار وحدته وينادم أوراقه عوضا عن البشر: لا تكثر اللوم.. أُص.. وغنّ الجرح بالجرح.. متقادم! يا دفتري وان لحق بك ظن ماني على وحدتي نادم أحيان.. ودي أقابل جن! ولا أقابل.. بني آدم! لكن هذه الوحدة الصامتة الهاربة من ضجيج البشر إلى أغاني الرعاة تستطيع خصلة شعر أن تهزمها وتجعل منها حكايات وأسرارا مفعمة بالحياة: خصلة شعر ريما حكايات وأفواه وليلٍ.. بلا فجرٍ قريب ونهاية تثبته عند المرايا وتنساه وتقول (أُف).. ويحترك بالمراية! وبعد: يقول محمد علي العمري عن الشعر: (ما له نهاية وانا ما قد هويت الحسم)، وبهذا تصبح عملية الرهان على شاعر عملية تدجين للشعر المتصعلك، والشعر مخلوق لا يقبل الرهان ولا التدجين، محمد يعرف الطرق التي تؤدي إلى السامي من الأبجدية.