بدأت القصيدة الشعبية تأخذ مسارا آخر بعيدا كل البعد عن اغراض الشعر واهدافه، اصبحت المسألة الآن بابا للتسول يجد من خلاله بعض الشعراء، منهم نجوم معروفة ومنهم اسماء جديدة مغمورة اكتسحوا اغلفة المجلات الشعبية وبدؤوا يزاحمون المحتاجين على ابواب القصور، حققوا من خلال المديح ثراءً سريعا لا يكلفهم سوى نظم الكلام والثناء على صاحب المال من اجل الخروج بغلّة او ضربة مالية بأقل جهد. هنا ظهر الوجه القبيح للشعر واصبح وسيلة للتحريك فكلما قل الرصيد وشحت الموارد بدأت تعابير الوجه تتغير ورسّخ صاحبنا فكره ووقته وجهده الذهني. ليسرد محاسن وبطولات الشخص الممدوح ويقدم معاناته المالية الكاذبة وحاجته الرخيصة وليلعب دورا قليل الحيلة وكثير المعاناة على مسرح الاحتياج والاحتيال. والمتابع والمهتم لوضع الشعراء لدينا يرثي كثيرا لحالهم حيث ترى الثقافة الضحلة وقلة الوعي (والمطامر على المنابر) حيث تدلف وجوه كثيرة من شاشات الفضائيات الى اغلفة المطبوعات وفي طوابير اكراميات شهر رمضان. أيرثى لحال الشعر بعد هؤلاء؟ بالتأكيد وإذا اصبحت بعض الوسائل الاعلامية تفتح ذراعيها وتحتضنهم فلا بد ان لهم نصيبا من الكعكة. الابداع الشعري يتوارى ومسامعنا سئمت منهم ووجوههم اصبحت مشمئزة يكسبون الكثير ويفقدون الكثير من الكرامة. دعونا نقف ونتأمل الاجيال الجميلة للشعر، ففي التسعينيات كنا نتلقف روعة الرشيدي وتوهج صقر وابداع المانع، ولا ننكر وجود التسول الشعري آنذاك لكن ليس كوقتنا الحاضر، الآن تأتي اجيال تلو الاجيال من المتسولين. حتى بدا للمتلقي حين مشاهدته لشاعر ما او لمجرد قراءة نص يحمل اسمه بدا له ما يقصد بدون الدخول في النص. الواقع الحالي في ظل الطفرة المالية في الشعر وكثرة المسابقات، اصبحوا يتلقفون هؤلاء لكي يمدحوا عشيرتهم ويجنوا ارباح الفزعة في بطونهم، واكتسبت تلك المسابقات شهرة عارمة لمجرد تناعر قبيلتي فلان وعلان واعادتنا للأسف الى الوراء كثيرا. ومادامت الجيوب مليئة والوجوه مسفرة ومغسولة فلن يكون لهم رادع سوى ذائقة الجمهور الحقيقي، التي يجنون عليها فلم نعد نسمع ابياتا مثل ما كتبه المانع سليمان: (طبعي كذا ما يخجل الدمع عيني دامه حنان بداخل الروح ما هنت ماني ضعيف بدمعتي وفهميني انا الذي بيدين الايام ما لنت) ولن يجرى احد في هذا الوقت لتكرار جنون مساعد الرشيدي حين قال: (كلك تعالي غلا والا ارجعي كلك بعض الغلا منك ما يستاهل الجيه طالت وانا في رجا ليتك ويا علك أوراق بالذاكرة واوراق منسية) وغاب عنا خيال نايف صقر الذي قال ذات شعر: (ذكراه تشعلها عصافير واجراس بس المحة ف اجمل زوايا كياني الغايب اللي كنّ في عينه نعاس اخاف اموت من الضما ما سقاني) كانت لمن سبقوا حضورا خاصا تتعرف وانت تقرأ النص على ملامح صاحبه الجميلة، ويذهب بك بعيدا حيث لا تعود الا بالجمال. نحن شعب طيب للغاية ننخدع بحضور الشاعر المسرحي وهو يرفع صوته مغردا ويشير بيديه امام الملأ الى مقصورة الاغنياء فاردا لهم ذراعي الكلام ومسخرا حمم المديح. احدهم طلب أمام العلن مساعدة مالية وآخر حلمه ان يتملك سيارة فارهة. فكان الهم الاكبر لديهم هو اعتلاء خشبة ذلك المسرح وحينها: كلّ يغني على ليلاه. في ايام الدولة الأموية كان الشعر لا يخلو ايضا من المدح وطلب الحاجة، وقد قال عبدالله بن قيس الرقيات في الامام عبدالملك بن مروان: (يعتدل التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب) ولكن لم يذكر ابن القيس حاجته لمبلغ مالي او ل (رينج روفر) فكان في حدود الحاجة الادبية. المتابع للساحة الشعبية لن يستغرب: متى وضع الشاعر رقم حسابه في آخر القصيدة؟ كما أنه لا يخفى على أحد ما في الساحة من (شللية) وفزعات على حساب الشعر الاسمى فالكثير من الاسماء لم تجد لها مكانا او حتى مساحة ورقية لنثر ما يكنونه في داخلهم، حيث تاهت ما بين بريد المطبوعة وارشيفها. على القائمين وعلينا - معشر المتذوقين - اعادة النظر فيما يحدث حتى ولو ارغمناهم فلن يجدوا آذانا مصغية ولا ايادي تصفق ولا افواها تهتف بأسمائهم. بلعريض (سئم المتلقي وتسامى الشعر حتى وإن وجدوا)