قلة هم الذين يتبنون قضاياهم، ولا تبرحهم طيلة حياتهم، فتراهم على مدى سنوات أعمارهم متفاعلين معها وبها، ينقلونها معهم أينما اتجهوا، ولا يستقر لهم جنان أو يهدأ لهم بال حتى يتحقق مبتغاهم منها، خصوصا متى تعلق الأمر بالفن والإبداع. الفنان المسرحي عبدالعزيز السماعيل أحد أولئك القلة حيث قضى طرفا من حياته مشتغلا ومنشغلا بالمسرح، ويوم تقلد القيادة الفنية في فرع جمعية الثقافة والفنون بالدمام، نفحها عصارة تجاربه، وأوقد منها شعلة لم تنطفئ حتى اليوم بشهادة الجميع.. واليوم يأتي الرياض محملا بتطلعات المكلفين له بإدارة جمعية الثقافة والفنون كي ينقلها إلى مستوى آمالهم وطموحات كل فناني المملكة، بعد أربعة أشهر من قيادته لدفة المسرح.. معه هذا الحوار. المسرح السعودي أكثر الفنون التي اصطدمت مبكرا بالتقاليد الاجتماعية.. هل تعرض لتكسير عظم أكثر من غيره؟ ليس في المملكة وحدها.. حتى في الدول العربية كانت بدايات المسرح صعبة وتعرض رواده للرفض مبكرا وللكثير من الأذى على رأسهم أبو خليل القباي ولدينا في المملكة أحمد السباعي، الذي أغلق مسرحة ليلة افتتاح العرض الأول في مكة بهجوم مباغت لم يمهله حتى لتقديم تجربة واحدة للجمهور ليعرفوا قيمة المسرح وأهميته.. ومع ذلك بعد عشر سنوات تقريبا من تجربة السباعي المجهضة كانت بدايات المسرح التي عشتها في الأحساء إبان التسعينيات من القرن الهجري الماضي مشجعة جدا وباعثة للكثير من الآمال والطموحات، حيث كانت تعيش المملكة عموما طفرة ثقافية وفنية واقتصادية شاملة. تأريخ بدايات المسرح يبدو مضطربا وغير مستقر.. ما أقرب احتمالات تلك البداية لتأسيس مسرح سعودي حقيقي؟ أظن أن الاضطراب حالة لازمت المسرح السعودي منذ بداياته ولا تزال لأنه لم يحض بالدعم والمساندة الكافية كمشروع ثقافي وطني حتى الآن.. واعتبر بتأسيس جمعية الفنون الشعبية في الأحساء كمؤسسة أهلية قبل الاعتراف بها عام 1971م – 1391ه هي البداية الحقيقية للمسرح السعودي بعد تجربة السباعي المجهضة.. ولكن تلك البدايات القوية في السبعينيات لم تدم طويلا وتراجعت بعد عشر سنوات تقريبا.. منذ بداية القرن الهجري الماضي وحتى اليوم.. ورغم ذلك فإن بعض الجهود الفردية مضافا إليها جهود جمعية الثقافة والفنون رغم ضعف إمكاناتها استطاعا أن يقدما أعمالا مسرحية مميزة، وأن يرتقيا بمسرحنا إلى مستوى رفيع جدا لا يقل عن عطاءات الدول العربية الأخرى في العديد من الحالات.. والآن هناك جيل من الشباب يقود المسرح السعودي بكثير من الشجاعة والتحفز، ولا ينقصهم سوى الدعم المادي والمساندة الرسمية. وأنت في الأحساء.. كيف كنت تراقب النمو المسرحي في المملكة؟ عندما بدأت حياتي الفنية في الأحساء عام 1995ه كان المسرح شعلة من النشاط.. كانت الفنون كلها متوهجة وتبشر بالكثير من التطور في الأندية الرياضية وجمعية الثقافة والفنون على السواء.. ذلك خلق تنافسا شريفا راقيا بين جميع الفنانين في المملكة في جميع المجالات من خلال المسابقات التي كانت تقيمها رعاية الشباب وإدارة التعليم آنذاك.. ذلك المناخ الفني الجميل كان جديا ومحفزا وغير مسبوق في جميع مدن المملكة، وكان الناس متسامحين ومهتمين، يتابعون بحماس ما يجري، لكنه للأسف لم يستمر طويلا حتى وتراجع الحماس وخبا، وتضاءل الدعم المادي والمعنوي تدريجيا، فأصبح الفن بعده من المحرمات والممنوعات الاجتماعية، أو من العادات والتقاليد السيئة في أحسن الأحوال.. ما الذي منحتك له الأحساء لتتجه بقدراتك الفنية نحو المسرح؟ الأحساء بلد عريق ومتسامح بطبيعة أهله، حيث تلتقي فيها وتعيش كل الثقافات والأجناس من البشر.. كانت الأحساء كذلك وأحسبها لا تزال لأن تركيبتها السكانية حاضنة لكل أطياف مجتمع الجزيرة العربية بأعراقهم وأجناسهم ومذاهبهم بسبب موقعها الجغرافي وخيراتها الزراعية التاريخية المعروفة وأخيرا البترول.. كل ذلك يجعل من الأحساء بلدا قابلة للتعايش والتسامح مع الاختلاف أيا كان.. وأنا ولدت وترعرعت في هذا المناخ الذي سمح لي بالتمثيل أول مرة وأنا في الصف السادس الابتدائي في المراكز الصيفية مع القليل من التحفظ من قبل الأهل.. قبل ذلك لم نكن ندرك تماما ماهية المسرح ولا الفن عموما.. كانت دواخلنا مشغولة بمواهب لا نعرفها ولا نميزها واكتشفناها من خلال المسرح، أي أننا عرفنا المسرح من خلال التجربة مباشرة.. لماذا انتقلت إلى الدمام؟ ومتى؟ وما المحفزات التي جعلتك تغامر بمغادرة الأحساء؟ في الحقيقة لم أكن أتصور في حياتي أني سوف أغادر الأحساء يوما ما.. من يعيش في هذه المدينة يصعب عليه مغادرتها.. وأنا فلاح ابن فلاح.. علاقتي بالأرض علاقة عشق فطري عميق تربى معي وترعرع منذ الطفولة.. فلم أغادر العمل في مزرعتنا مع والدي، يرحمه الله، منذ طفولتي حتى أجبرتني ظروفي العملية في شركة الاتصالات السعودية على الانتقال إلى العمل في الدمام عام 1985.. ولكني لم أذهب بعيدا ولم أشعر بغربة كبيرة في الدمام.. فالأحساء موجودة هناك أيضا من خلال الأقارب والأصدقاء.. واستطعت أن أستثمر ذلك في تأسيس حياة أسرية جديدة وحياة فنية جديدة أيضا من خلال جمعية الثقافة والفنون بالدمام التي كانت نشيطة واستقبلني الزملاء فيها بكل حب وتقدير لأبدأ من هناك مشوارا فنيا جديدا هو الأطول والأهم والأكثر عطاء وأنا فخور به الآن. رئاسة أفرع جمعيات الثقافة والفنون بالمملكة يعني احتكارا للمؤسسية.. كيف توازن بين حزمة أعمال تتطلب جهدا خارقا في البناء أكثر منه تفاعل واقعي مع الفعاليات؟ من خلال بناء علاقة إدارية متطورة مبنية على الثقة، والتعاون الخلاق بين جميع فروع الجمعية في المملكة والإدارة العامة في الرياض يمكن أن نجد أرضية قوية للعمل بروح أخوية مشتركة ومستقلة في ذات الوقت.. شخصيا لا أحب الاحتكار ولا أجده نافعا في الإدارة بالذات.. ولكن هذا هو النظام الأساسي للجمعية.. والإدارة العامة أسلوب عصري متبع وناجح في الكثير من الإدارات والمؤسسات المهمة.. ويمكن أن يكون ناجحا لدينا إذا تطورت أساليبنا الإدارية بما يناسب هذا العصر وظروفه.. لدينا 16 فرع جمعية في المملكة ولدى كل فرع إدارة مستقلة، لديهم صلاحيات واسعة للعمل بحرية ولا نطلب منهم سوى التقيد بالإطار العام لنظام العمل في الجمعية لضمان سير العمل بشكل جيد ومنظم يليق باسم الجمعية ويحقق أهدافها لمصلحة جميع الفنانين والمثقفين في المملكة. مع هذا التشعب الهيكلي.. ما الذي تتوقع أن تضيفه للواقع المسرحي؟ لا أستطيع أن أضيف شيئا منفردا.. من يضيف هم الفنانون أنفسهم بالتعاون مع إدارة فروع الجمعية المنتشرة في مدن المملكة.. هكذا علمتنا التجارب الناجحة في كل مكان.. لذلك نحن في موقع المساند والداعم ماديا ومعنويا لكل الأفكار الجديدة الخلاقة التي تدعم الحركة المسرحية المحلية والفنون الأخرى في أي فرع.. وما نحتاج إليه الآن هو الخروج من النمطية والتكرار في إقامة النشاطات كلها وليس المسرح فقط.. ومن دون ذلك لن نستطيع أن نضيف لواقعنا الثقافي شيئا جديدا. هل يمكن أن تتسرب المرأة إلى المسرح كقوة دافعة لقيمته الإبداعية؟ بدأت المرأة تلعب دورا مهما في المسرح السعودي الآن، من خلال التأليف والنقد وتقديم الورش التدريبية والمحاضرات والمشاركة في لجان التحكيم.. إلخ من أعمال كانت إلى وقت قريب، حكرا على الرجال فقط.. كل ما نتمناه أن يكبر هذا الدور ليصبح أكثر تأثيرا وفاعلية في المشهد المسرحي المحلي.. والمرأة السعودية قادرة أن تسهم وبقوة في كل النشاط الثقافي وأثبتت جدارتها في ذلك. متى تتوقع أن يصلح حال المسرح على ذات النحو الذي تتطور فيه الفنون الأخرى؟ بصراحة وكما هو واضح في المشهد الثقافي السعودي بشكل عام، كل الفنون السعودية ومن ضمنها المسرح بحاجة للتطور الذي لن يأتي إلا بتبنيهم جميعا في إطار مشروع وطني ثقافي شامل، لتكون الثقافة والفنون جزءا لا يتجزأ من خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة للدولة، وهذا ما نتوقعه أن يحدث في هذا العهد الميمون للملك عبدالله بن عبدالعزيز المتميز بالعطاء والسخاء والرغبة الأكيدة في التحديث والتطوير في كافة المجالات التي تهم الوطن والمواطن على حد سواء، فمثلا نحن في حاجة ماسة ومنذ زمن بعيد إلى مبان ومقرات دائمة ومؤهلة لممارسة كل الفنون، ونحتاج إلى معاهد أو أكاديميات للتخصص لأن عصر الهواية والارتجال والجهود الفردية يجب أن ينتهي لأنه لم يخدمنا كثيرا، وأخيرا نحتاج إلى الدعم المادي الحكومي والمعنوي الملائم والمحرك للنشاطات، وأملنا كبير في تحقيق هذا الدعم المرجو من حكومتنا الرشيدة في أسرع وقت ممكن بقيادة خادم الحرمين الشريفين. لماذا تنفصل الأجيال المسرحية عن بعضها أكثر من غيرها في الفنون الأخرى؟ هذه مشكلة مسرحية كبيرة سببها ضياع أو غياب التراكم الفني والمعرفي طوال السنوات التي مضت على تجربة المسرح السعودي.. وغياب التراكم ناتج عن عدم وجود تجارب مستمرة أو منتظمة للكوادر الفنية في مجال المسرح.. ما يعني أن بعض الأجيال خرجت من المسرح محبطة دون أن تكمل مشوارها والبعض يلتحق بالمسرح دون الاحتكاك والاطلاع على تجارب من سبقوهم لنبدأ من جديد وكأننا لم نقدم مسرحا من قبل.. ففي عالم الفن لا تستطيع أن تقدم شيئا من لاشيء. هناك حاجة ماسة لتفريغ المسرحيين، وكنت ناديت بذلك سابقا، فما دوركم في ذلك؟ ولا أزال أتمنى أن يحدث ذلك.. ولكنه إجراء كبير يحتاج إلى قرارات من جهات أعلى من الجمعية للأخذ به.. وفي ضني بأن التخصص الأكاديمي هو المفتاح الحقيقي للأخذ بهذا الإجراء في المملكة أسوة بما يحدث في الجامعات.. نحن في الجمعية نعتمد الآن على قرار مجلس الوزراء في تفريغ الفنانين عدة أسابيع أو عدة أشهر في السنة وبشكل خاص المشاركين في الأعمال التي تمثل المملكة في الخارج فقط.. وهو إجراء جيد يخفف من الضغط على الفنانين لأن معظمهم غير محترفين ومرتبطون بأعمال أخرى. لماذا ترفع وزارة الثقافة يدها عن المسرح إلى الحد الذي يجعله في آخر اهتماماتها الثقافية؟ لا أرى ذلك.. والعكس هو الصحيح.. فالوزارة تقدم الدعم ولا تزال لكل النشاطات المسرحية الكبيرة المحلية المرتبطة بالجمعية أو خارجها كان آخرها مهرجان الفرق الأهلية الذي نظمته جمعية المسرحيين في الرياض قبل عدة أشهر فقط وحظي بدعم كبير من وكالة الوزارة للشؤون الثقافية.. إضافة إلى دعم المشاركات الخارجية.. كل ما نتمناه من الوزارة هو زيادة هذا الدعم والثبات في إقامة مهرجان المسرح السعودي كل سنتين على الأقل. عندما جئت إلى هذه الإدارة ما الهاجس الذي كان يراودك؟ جئت وفي ذهني أمل الارتقاء بمستوى أداء جمعية الثقافة والفنون وأدائها بشكل عام لصالح الفنانين والمثقفين جميعا في المملكة والمجتمع السعودي أيضا.. جئت ولدي أمل كبير في أن أكون أهلا لهذه الثقة التي منحتني إياها الإدارة، وبشكل خاص من رئيس المجلس الدكتور محمد الرصيص وأيضا ما لمسته من ثقة كبيرة في الوسط الفني في المملكة عموما.. بعد أربعة أشهر من تكليفكم هل اتضحت الصورة جلية أم لا تزال تكتشف فضاءات هذا العمل؟ إلى حد كبير نعم.. الصورة واضحة جدا الآن أكثر من أي وقت مضى.. خلاصتها وبكل صراحة أن التطوير والتحديث الذي نتأمله يحتاج بالضرورة إلى أشخاص ذوي كفاءات مميزة لإدارة الفروع، والعمل في اللجان أيضا. كيف ترون مستقبل المسرح السعودي؟ مستقبل المسرح السعودي مرهون وبكل صراحة بما سوف يحصل عليه من دعم ومساندة حكومية مالية ومعنوية سواء كان لجمعية الثقافة والفنون بشكل خاص بزيادة الدعم السنوي للجمعية لتطوير نشاطاتها، وإنشاء مقرات دائمة لها في المدن، أو لغيرها بإنشاء أكاديمية متخصصة في مجال المسرح .