ما زلت أتذكر تلك السعادة التي ترتسم على وجوه أطفال الحي بمجرد مشاهدتهم سيارة البلدية التي يتطاير من مؤخرتها مبيد الحشرات «الفليت» وهي تجوب الأحياء مسرعة، فما أن نراها قادمة في الأفق حتى نتقافز كلنا فرحين، ويبدأ سباق ماراثوني لمطاردتها بين الطرقات حتى تغيب وجوهنا الصغيرة عن بعضها وسط سحابة المبيد ونحن نستنشق «الفليت» بعمق وإخلاص! هذه الصورة ليست مقتصرة على حي بعينه، بل هناك تواطؤ مشترك ومنتشر بين كل الأطفال في كل الأحياء، فكان من الغريب أن تشاهد طفلا في ذلك الزمن لا يتفاعل مع هذا المشهد كما كنا نفعل. رغم اختلاف الأحياء إلا أن الجميع كانوا يتفقون على هذه الظاهرة، كاتفاقهم على ممارسة كرة القدم بالثياب في الشارع بلا أحذية تقيهم حر الشمس وألم الحصى والجراثيم العالقة بفتحات الجروح التي تسببها إصابات الشوارع المتعددة! الشيء الوحيد المتعلق بالنظافة في ذلك الوقت هو غسل اليدين قبل الأكل ربما لدافع ديني رغم أنه كان طقسا مقيدا على نوع الأكل وليس مطلقا؛ فبعضنا لا يعتبر غسل اليدين واجبا عند أكل الساندويش. ورغم كل هذا كنا أطفالا أصحاء، نادرا ما كنا نذهب للعلاج في الوحدة الصحية إلا في الحالات التي لا نعد نقوى فيها على السير، ولم تنتشر بيننا أمراض معدية تجلب الهلع والخوف كما هو الحال الآن. المرض المعدي الذي كنا نعرفه هو جدري الماء «العنقز»، ورغم أنه معدٍ إلا أن رغبة المواجهة كانت أسهل من توخي الحذر والاختباء منه. لكن اليوم أصبح هناك هوس بالنظافة عند الناس، وبات من النادر أن تشاهد أطفالا يلعبون في الشارع؛ فكلهم محبوسون داخل البيوت التي امتلأت بالمعقمات والمنظفات، فانتشرت أمراض الجهاز التنفسي والقلب وهشاشة العظام؛ لأن جهاز المناعة لم يتم تحفيزه بالشكل الكافي كونه لم يتعرض لعدد كبير من الجراثيم كما تعرضنا لها في السابق. ولقد قرأت مؤخرا دراسة لفريق طبي بريطاني خلص إلى أن النظافة الزائدة قد تتسبب في الإصابة بالعديد من الأمراض، وأن الاهتمام الزائد بنظافة الجسم والطعام يحرم الإنسان من التعرض لميكروبات تحفز الجسم على إفراز أجسام مضادة للإصابة بالسرطان. ولهذا أطالب المرشحين بالمجلس البلدي بأن يضعوا في أولوياتهم إعادة إحياء تلك الظاهرة القديمة، وتخصيص سيارة فليت لكل حي.