أول مرة أكون على موعد مع جديد في مجال أجهزة العرض التليفزيونية كان حين شدت انتباهي تلك الجوائز المتمثلة في شاشات البلازما المعروضة في حلقات من برنامج تليفزيوني. وكم كانت دهشتي من تسطيح تلك الشاشات وأمنيتي في امتلاك واحدة منها يوما من الأيام لأكون ناظرا للعروض بهيئة مسطحة توحي لي بأنني في قاعة سينما أو أنني داخل الشاشة نفسها أسبح وأهيم متعة ونقاء. وحين مر زمن على هذه الأحلام التي أكلت من طموحي الكثير ثم ذهبت وشأنها دون أن تتحقق ودون أن تبقى أيضا في الشهوات الباطنة رغم تعرضي لكثير من المغريات البلازمية في الأسواق والمحال التجارية وبيوت بعض الزملاء والأصدقاء، تمعنت اليوم في حقيقة هذا الاختراع والقفزة النوعية وأنا أتحسس شاشة زُين بها حائط مدخل الإدارة التي أعمل بها. حرصت على أن يكون هذا التفحص والتحسس صباحا في قدومي المبكر للدوام قبل أن يراني الزملاء أو مراجعون ويظنون بأن خرفا أو جنونا أصابني فجأة، وما إن لمست أطراف تلك الشاشة شبه العملاقة حتى أصبت بقشعريرة في بدني من شحنات كهربائية موجبة أو سالبة لم أعد أذكر أفقدتني توازنا في تخيلي. لم يدر في خلدي أنني سأقف أمام هذا الشيء النابض بالحياة والحيوية والنشاط، الذي يتشكل ويتلون في الثانية 100 مرة ليحطم أرقام الحرباء القياسية وطرق المنافقين والمجاملين الخيالية، لكنني تداركت تفكيري بالعودة سالما لأرض الواقع وأنا مراقب لكل المسطحات ورقائق المصنوعات التقنية في حياتنا. وجدت في الأمر متعة أن أسجل مسحي السريع لنزعة الابتكارات الحديثة نحو الخفة والأناقة المشوبة بالتسطيح والاستطالة، بعد أن مرت عصور طويلة على أشكال مربعة وصناديق مغلقة ثقيلة الوزن كبيرة الحجم للأدوات الإلكترونية منذ نشأتها حتى وقت قريب ومعاصر. وربما تطور الأمر في حيثيات التصغير والتقليل من ثقل الأوزان في أعوام متعاقبة لكن الغالب في الشكل والمضمون للتليفزيونات وأجهزة الفيديو والراديو بل والحاسب الآلي في أزمنة ظهوره الأولى أن كل هذه المقتنيات قد تأخذ حيز غرفة بأكملها. وبشيء من التدقيق في محتويات تلك الصناديق التي تضم خدمة الجهاز نفسه ومحتوياتها، نخرج بقليل ونزر ضئيل من المفيد سوى إكسسوار أخذ شكله من مصممه أكثر من أخذه فكرة البساطة من مخترعه. في هذه اللحظة من التفكير أدركت أن انحراف العالم نحو الاختصار ومحاولته أن يجد حلا لتزاحم الموجودات في الكون رغم اتساع البقعة الأرضية لكثير بل أضعاف من موجوداته هو الطاغي على الجديد في الصراعات والموضة والاختراعات. ولا يمكن أن ينفك أي موديل في عالم الإلكترونيات والأجهزة المعلوماتية الصغيرة منها والكبيرة عن إفراط في التسطيح وترقيق العظام والنتوءات والبروز وإن أخذ حجما استطاليا كبيرا ليغطي أكبر قدر ممكن من المستخدمين. فأجهزة الجوال والحاسب الآلي المحمول وشاشات البلازما ورقائق الحفظ المعلوماتي وزجاجيات البناء وحساسات التفتيش وكل ماله علاقة بعكس صورة أو رقم أو كتابة للعين المجردة آخذ في النحافة والرشاقة بطريقة تخيفني أن تختفي الأشياء يوما رغم ظهور عوارضها فنظنها كما كان يعتقد أجدادنا نوعا من السحر أو عمل من أعمال الجان. والأمر الذي ركنت إليه في آخر هذه الهلوسة الكتابية هو إنسان اليوم الذي يبحث عن الرشاقة في كل مراحل عمره سواء كان ذكرا أم أنثى، باحثا في العلاجات والمساعدات والعمليات عن وسيلة تجعل من قوامه وقده صفحة بيضاء أو سمراء تشترك مع شاشات البلازما في جاذبيتها ورقة تصميمها. ثم إن الأمرين البارزين في القضية البلازمية هذه هما «التسطيح والخفة» قد أغضباني لأنني شعرت بخفة وتسطيح في عقلي وتفكيري وأنا أراقب هذا التاريخ البيولوجي للأجهزة معرضا عن فكرة تدق بابي بأن للإنسان حظا أو شبها من اختراعاته ونتاجه وتصميمه. ولم يتركني الهذيان في حالي بل راح يهذي على لساني بأن الورق الذي كان مصدرا أساسيا للمعلومة بسبب الكتابة عليه ورقة حمله وطواعية التزامه بالحفظ في شكل كتاب أو مخطوط سهل الحمل والاقتناء هو الدافع نحو تقليد كل المخترعين في مجال المشاهد والمقروء والمنظور ليكون الجهاز أشبه بالصفحات البيض. مدونة محمد أحمد بابا http: //mohamad.baba.blogunited.org