اضطرابات التلعثم بكل ما تسببه من خجل وانطواء، هي أزمة فعلية بالنسبة للفرد العادي، فكيف يكون الحال إذا كان الفرد منتميا إلى عائلة مالكة؟ وما صورة الوضع إذ وجد الأمير المتلعثم نفسه وقد غدا ملكا لثمان وخمسين محمية ومستعمرة، وإمبراطورا على الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؟ لكن الموضوع هو أكبر من مجرد سرد تاريخي، فهذا الفيلم يخاطب كلا منا بأزمته الخاصة، وعقدة نقصه الفردية حين يتملكنا جميعا الخوف من الفشل. الفيلم يحكي قصة الأمير «ألبرت»، والد الملكة الحالية «إليزابيث»، وهو الابن الثاني لملك بريطانيا «جورج الخامس»، وتبدأ الأحداث في ثلاثينيات القرن الماضي حين يكلف الملك جورج ابنه «ألبرت- بيرتي» بإلقاء كلمة بمناسبة المعرض الإمبراطوري في«ويمبيلدن»، في الوقت الذي ظهر فيه اختراع جديد اسمه البث الإذاعي! ويتقدم الابن الشاب إلى حشود الجماهير الغفيرة التي تترقب ما سيلقيه على مسامعهم، لكنه يتلعثم وتتجمد الحروف على لسانه، لنكتشف أنه مصاب منذ الطفولة ب«التأتأة والتلعثم» في النطق. زوجة ألبرت، «إليزابيث»، تحبه كثيرا وتحلم أن يتوج ملكا، ولذا لا تدخر وسيلة لعلاج مشكلته، فتهتدي إلى متخصص في التدريب على النطق لمعالجة مشاكل اللعثمة، وهو «ليونيل الأسترالي» الممثل الذي ترك التمثيل حيث لم يوفق فيه، ويبدأ العلاج بوسائل غير تقليدية بين الأمير والمدرب الذي لا يلقن «بيرتي» دروسا في كيفية النطق فحسب، بل ويعطيه دروسا في كيفية التعامل الإنساني وقراءة الحياة قراءة صحيحة والخروج من مأزق الأنا والغطرسة والنرجسية الملكية. وهنا يتوفى جورج الخامس، ويتم تنصيب الابن الأكبر «إدوارد» ملكا، ولكن سرعان ما يعتزل بسبب علاقته بفتاة مطلقة من أصل أمريكي، وهو ما يخالف القوانين الملكية، ويجد بيرتي نفسه وجها لوجه أمام قدره في أن يصبح هو الملك «جورج السادس»، وتم تتويجه ليكون ذلك بداية لفصل جديد من الصراع المرير الذي يعيشه بيرتي مع ذاته في إلقاء الخطابات الملكية بينما هي ركن أساس في العلاقة مع الرأي العام، ولهذا يعود إلى مدربه الأسترالي بعد خلاف بينهما، لتبدأ فصول جديدة يتحول فيها بيرتي إلى التسليم بنبوءة مدربه بكونه الملك الجدير بالملك؛ ليتوج صعوده نفسيا في تجاوز عقدة النطق مع تصاعد التوتر مع ألمانيا الهتلرية، حيث يكون أهم خطاباته، وأولها التي يتمكن من إلقائها، هو إعلان الحرب على ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ليتحول الملك الذي قال عن نفسه «أنا مجرد ضابط بحرية» إلى قدوة وملهم للروح البريطانية خلال واحدة من أدق مراحل تاريخها. فيلم الأوسكار المقبل الفيلم مأخوذ بالأصل عن نص مسرحي وعن المذكرات الشخصية غير المنشورة للأمير ألبرت، والتي ظهرت حديثا، والتقطها السيناريست «ديفيد سيدلير» ليصوغ سيناريو محكم التأثير بكلاسيكيته وحواراته المؤثرة جدا، وهي الحامل الرئيسي للفيلم، وليقدم المخرج المبدع «توم هوبر» في ثالث عمل سينمائي له بعد فيلمين سابقين هما «غبار أحمر» و«الملعونة المتحدة» رؤية بصرية غاية في الاحترافية والمدلولات البصرية وجماليات الصورة، وإن كانت تكاد تقترب من الشكل المسرحي، عبر توظيف كل عناصر العمل بشكل دقيق يخلص العمل من تكرار فحوى المشاهد، وبالاعتماد على زوايا وكادرات تصوير مختلفة، وبمرافقة أثيرية من الموسيقى التصويرية الحالمة، ولكن يبقى الأهم هو كادر الممثلين المبهر بأدائه، وخصوصا الممثل البريطاني «كولين فيرث» الذي فاز بجائزة أفضل ممثل من «جمعية ممثلي السينما في لوس أنجلوس» إضافة لتألق الأداء الذي قدمه الممثل القدير « جيفري راش». وحصل الفيلم في المجموع على 12 ترشيحا لجائرة الأوسكار، وذلك أكثر من أي فيلم منافس آخر، وسط توقعات من أغلب النقاد بحصوله على جائزتين، هما أوسكار أفضل فيلم، وأوسكار أفضل ممثل رئيسي. فيلم «خطاب الملك» سيرة بصرية لتاريخ خطته الإرادة البشرية في مواجهة البرتوكولات والمظاهر والاحباطات من الطامعين بتكاتف المحبين والإرادة، وهما جوهر العمل وسيرة كادره الذي أوصله ليكون الملك الذي يلقي خطاب الأوسكار المقبل