لماذا حينما تفتك مصيبة دنيوية أو تحل قارعة إدارية ببلدي المكلوم.. تشرئب أعناق بعض الشيوخ «المترسمين» لتتحدث عن القضاء والقدر، وحينما تغرق مدينة كبيرة مثل جدة بالسيول والأمطار وتعاني من سوء الإدارة والتصريف يأتي القضاء والقدر. ولماذا لا يكون القضاء والقدر إلا في غرق المدن وسوء التنظيم وقلة الإدارة وتسريب الفساد والعبث بالمال العام، بل والعبث بأرواح الناس وممتلكاتهم ومستقبلهم ومدنهم وأمنهم في العيش الكريم داخل بيوتهم وأماكنهم. ولماذا لا يكون القضاء والقدر يا هؤلاء إلا في الكوارث؟ أو تزكم الأنوف بروائح عمليات فساد مستترة تتسبب في الحرمان والجوع وسوء التصريف وموت كثيرين؟ لماذا يردد «المترسمون» أن غرق المدن بقضاء وقدر، وأن تسلط المسؤول بقضاء وقدر، وأن هلاك الزروع والثمار بقضاء وقدر، وأن المسغبة بقضاء وقدر، وأن الحرمان بقضاء وقدر، وأن وقوع الظلم بقضاء وقدر؟ ولا يخبروننا عن القضاء والقدر الآخر.. قضاء التخطيط والإدارة وقدرها.. وقضاء الأمم المتحضرة وقدرها.. وقضاء الصناعات والعلوم وقدرها.. وقضاء خيار الناس وقدرهم. قضاء الكرامة وقدرها، وقضاء الصوت المسموع وقدره، وقضاء الحقوق وقدرها، وقضاء الفكر الحر وقدره، وقضاء الثورات وقدرها. لماذا يخبروننا عن قضاء الباطل.. ولا يخبروننا عن قضاء الحق وقدره؟ لماذا لا يخبروننا أن ندافع أقدار الحرمان والجوع بأقدار التخطيط والتحرير والتدبير؟ ولماذا لا يعلموننا أن الإنسان يشاء «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين»؟ وأن الإنسان يصنع قدره، وأن المسلم يصارع أقدار الباطل بأقدار الحق، كما يعبر الحارث المحاسبي؟ ولماذا لا يخبروننا أن عمر بن الخطاب حينما انتشر الطاعون أمر ألا يقرب بلد الطاعون أحد، ولما قيل له «أتفر من قدر الله؟» قال: «بل نفر من قدر الله إلى قدر الله» ثم أردف «أرأيت إن كان عندك ماشية وأردت أن ترعاها فهل تضعها في الأرض المجدبة أم بالمخصبة؟» قالوا: «بل بالمخصبة». قال: «فكلها قدر الله.. فنحن نفر من قدر الله إلى قدر الله». لماذا تنبعث حناجر هؤلاء لتحدثنا عن قدر الله في المصائب والملمات؟ ولا تنبعث لتخبرنا عن قدر الله في الحقوق والحريات وخيار الناس؟