ما زال نظام «ساهر» محل رفض واسع وسط الشباب، في وقت تؤكد الإحصاءات الرسمية أنه استطاع تخفيض الحوادث المرورية بشكل قياسي، ونجح في تغيير الخروقات المرورية، إلى درجة كبيرة. لكن في الاتجاه الآخر لا يرى البعض أن الغرامات المالية، هي السبيل الأنسب للعقوبات في المخالفات المرورية، بل يمكن أن تكون أحيانا، وليست دائما. والبعض يرى أن «ساهر» بوضعه الحالي لم يحكم الخناق على المخالفين، بالقدر الذي جمع أكبر غلة مالية، لا يمكن ترجمتها لواقع النجاح. لكن على النقيض من تلك الآراء الرافضة لانضباطية النظام، يصر البعض على أنه لولاه لما تدنت المخالفات، فيما يرى المعارضون له، أنه بدونه لتفجرت الأفكار برؤى أخرى أكثر شفافية ونظامية ومقبولة مجتمعيا، وتحقق الهدف المنشود. من بين تلك التناقضات، تحتاج كثير من الأسئلة لإجابات عنها في مقدمتها هل يجب أن نكتفي بالعقوبات المالية فقط كعقاب لأي مخالفة ما؟ وهل هذه العقوبات المالية هي من تجعل المجتمع على قدر كبير من الانضباط؟ ما بديل هذه العقوبات المالية التي بدأت تثقل كاهل المواطن؟ لا بدائل يقف عضو مجلس الشورى الدكتور بندر الحجار مع العقوبات المالية، لأن العقوبات بشكل عام موجودة، ومنها العقوبات المالية، وهناك توجه كبير حاليا لبعض الجهات الحقوقية في المملكة إلى أن تستبدل عقوبة السجن بالعقوبات المالية، بحيث تلغى عقوبة السجن أو تخفف «كانت هناك ندوة منذ أعوام للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بعنوان بدائل عقوبات السجن، وأخرجت لنا دراسة تؤيد أن العقوبات المالية تكون بديلة لعقوبات السجن، وبالتالي فإن العقوبات المالية هي الخيار». ويتفق الخبير الاقتصادي فضل البوعينين على أن الغرامات المالية نوع من أنواع العقوبات «إلا أنها ليست الوحيدة، ومن الخطأ الركون إليها في كثير من المخالفات الخطرة، خاصة فيما يتعلق بالأنظمة المرورية، أو ربما الأنظمة التجارية أيضا، وأعتقد أن النظام في بعض جوانبه استسهل تطبيق الغرامات المالية، أو ربما ركز عليها بمعزل عن العقوبات الأخرى، وهو ما أدى إلى تفشي المخالفات بما فيها المخالفات». ويعتقد من وجهة نظر خاصة أن الدمج بين العقوبات المالية والتعزيرية، أفضل من الاعتماد على أي منها بصفة مستقلة عن الأخرى «فالسرعة غير القانونية يمكن أن تطبق عليها الغرامات المالية، إذا كانت ضمن الحدود المعقولة، ولكن عندما تتجاوز سرعة السيارة 160 كيلومترا في الساعة عندها يتطلب الوضع فرض عقوبات أخرى مصاحبة للغرامة المالية كسحب الرخصة لأشهر محددة على سبيل المثال لا الحصر، أما قطع الإشارة فتعني تهديد أرواح الآخرين للخطر، وهنا لا بد من وضع العقوبة المناسبة لها كالدمج بين الغرامة المالية والتوقيف، شريطة أن يكون ذلك من خلال المحكمة المرورية، وفي بعض الدول الخليجية يتم تطبيق العقوبات المالية والتعزيرية المتمثلة في السجن في آن واحد، أو بصفة مستقلة بحسب المخالفة المرورية، وفي الدول الغربية يتم تطبيق الغرامة المالية بصورة مستقلة، أو الغرامة مع سحب الرخصة لمدة زمنية محددة، فإذا تكررت المخالفة المجيزة لسحب الرخصة مرات عدة يتم سحب الرخصة نهائيا، ومن جانب آخر فأنظمة المرور لديهم تحتسب نقاط على كل مخالفة تضاف إلى سجل السائق المخالف، وعند وصولها إلى سقف محدد يتم سحب الرخص، ومنعه من القيادة لفترة محددة وهكذا دواليك، وتلك النقاط تؤثر أيضا في تكلفة التأمين الإلزامي، فالمؤمن الذي لديه سجل ممتلئ من المخالفات ملزم بدفع تكلفة أعلى من الآخرين». وأوضح أن «مشكلة العقوبات لدينا لا ترتبط بالمخالفات المرورية فحسب، بل تتجاوزها إلى المخالفات التجارية، أو العمالية ونحو ذلك، كثير من المخالفات تصل مستوى الجريمة، كالغش في المواد الغذائية أو ترويج البضائع المقلدة التي قد تؤذي الإنسان أو تقتله في بعض الأحيان، وتقديم الوجبات الفاسدة، أو إعادة ترويج اللحوم والأطعمة الفاسدة أو منتهية الصلاحية بعد تزوير تاريخ الصلاحية, مثل تلك المخالفات يفترض أن تكون عقوباتها مالية مغلظة، وتعزيرية أيضا كالسجن على سبيل المثال، ومن المخالفات الخطرة أيضا تلك التي ترتبط بالتزوير والتلاعب في بيانات رسمية، كالتوظيف الوهمي، أو استغلال بطاقات المواطنين دون علمهم للتهرب من أنظمة السعودة، فهي تحتاج إلى عقوبات رادعة بالإضافة إلى العقوبات المالية». شراء المحكومية وأشار البوعينين إلى أن هناك من يطالب بتطبيق شراء المحكومية في بعض الجزاءات، لأسباب متعلقة بكفاءة السجون، أو استيعابها، أو تطبيق لنظريات اجتماعية «هنا يمكن أن يكون تكريسا لمبدأ الغرامات المالية، وهو أمر يمكن القبول به شريطة وجود الأنظمة الصارمة، والقوانين الصريحة التي لا تحتمل اللبس، وأعتقد أننا لم نصل بعد مستوى التطبيق القانوني الصارم لشراء المحكومية بما لا يخل بنظام العقوبات، أو الأحكام الصادرة ضد المخالفين، باختصار أنا مع الغرامات المالية، وأجد أنها تحقق هدف الردع بكفاءة في بعض الأحيان، إلا أن استبعاد خيار العقوبات التعزيرية، قد يجعل البعض يتمادى خاصة في المخالفات المؤذية للآخرين، أو المتسببة في الإصابات، أو الوفيات، أو ضياع الحقوق أيضا، لذا لا بد من التدرج في العقوبات، مع الأخذ في الحسبان وضع مزيج متكامل من العقوبات التي يمكن من خلالها تحقيق هدف الانضباطية والحماية أيضا». اختصاصي اجتماعي ويتأسف الاختصاصي الاجتماعي بشير اللويش على التغير الاجتماعي السريع في الآونة الأخيرة «الذي بسببه تغيرت الثقافة لدى البعض، إن لم نقل الأغلبية نحو الاهتمام بالمادة لتأثيرها في الحياة والرفاهية المعيشية، ما انعكس سلبا على الوضع الاجتماعي ووضوح التباين بين طبقات المجتمع بشكل عام». وعن البديل أضاف «علينا أن نثق تماما أن التفكير موجود، والأفكار لدى أصحاب القرار كذلك موجودة ولكن لا نعلم كيف يتم تحديد تلك العقوبات وتفعيلها وإلى أي حد؟ ولكن لعل وعسى أن يأتي الوقت لإيجاد البدائل الأفضل، لأنه من المستحيل, فلم تكن الأمور المالية هي من يتحكم بتغيير القناعات لدى أفراد المجتمع، بل ثقافة الفرد نفسه هي من سيجعل المجتمع منضبطا، في الأول والأخير لم نسمع إلى نداء من قبلها لتقديم ما لدى أصحاب الفكر من أفكار وحلول مثلى قد تساعد في تحقيق الأهداف المنشودة». مع الغرامات أضاف الاختصاصي الاجتماعي «أنا مع العقوبات المالية لمن يقود المركبة داخل البلد بسرعة تتجاوز 120 ولكن بين المدن والمحافظات، فما المانع إن وصلت إلى 140 لأن من غير المنطق أن أسافر من الدمام إلى القريات بسرعة 120، فقد تنتهي الإجازة وأنا لا زلت في ربوع المدينة مسافرا ولم أصل إلى مرادي، كما أنني لست مع مضاعفة المخالفة إن لم تسدد خلال فترة شهر من ارتكابها، فما ذنب من لا يستطيع خلال الفترة المسموح بها قبل أن تضاعف، خاصة أنه في الوقت الجاري المجتمع العالمي وليس المحلي يمر بوضع مالي سيئ بسبب غلاء المعيشة، وزيادة الالتزامات المادية على كاهل المواطن والمقيم على حد سواء، ومن المنطق أن لا نحمله فوق طاقته، إضافة إلى ما نسمع ونقرأ من تذمر قائدي المركبات من تلك العقوبات وكيفية تطبيقها». ضد الغرامات ويخالف تلك القاعدة عضو مجلس الشورى وأستاذ العلوم السياسية الدكتور صدقة بن يحيى فاضل، الذي يرى أن مبدأ الأخذ بالعقوبات غير المالية في معاقبة مرتكبي بعض الجرائم والمخالفات في المجتمع مبدأ قديم، حظي بالاهتمام البالغ من قبل المفكرين الاجتماعيين في البلاد المتقدمة، وتم تطبيق كثير من توصيات هؤلاء على أرض الواقع، مشيرا إلى اهتمام المملكة والدول العربية أخيرا بهذا المبدأ، في النظرية والتطبيق، ولكن لا يزال تطبيقه في الواقع يواجه الكثير من الصعوبات، فهناك إجماع على ضرورة الأخذ بالعقوبات غير المادية كالسجن والغرامات المالية، وتحويل العقوبة إلى الإلزام بالقيام بعمل مثمر، يفيد المجتمع، ويؤدب المذنب، دون أن يعرضه لإهانة العقوبات المادية، وذلك بالطبع في جرائم ومخالفات بسيطة معينة ومحددة، أما الجرائم الكبيرة والكبرى فلا مناص من العقوبات المادية، ويجب أن تحدد أولا المجالات التي يمكن اعتبار القيام ببعض أعبائها عقوبات غير مالية، كالحراسة، وتدريس بعض المواضيع، والقيام بتنظيف مبان وطرق، والسهر على حماية بعض المنشآت، وتقديم عون لكبار السن وذوي الحاجات الخاصة، وما إلى ذلك. محل نظر ويشدد على أنه شخصيا يميل للأخذ بالعقوبات غير المادية في جرائم ومخالفات محددة، كالمخالفات المرورية والمشاجرات، وغيرها، وذلك لأسباب عدة «أهمها كون السجن والعقوبات المالية أدوات عقابية غير مناسبة في كثير من الجرائم، لأن المردود منها سيئ وسلبي بالنسبة إلى الجاني ولمجتمعه، وقيام المخالفين بأداء العقوبات غير المالية تحت إشراف صارم وحازم يعني تقديم خدمة إيجابية للمجتمع، وأيضا تقديم حماية للجاني من تعلم انحرافات أكبر، وسبق أن نوقش في مجلس الشورى مبدأ العقوبات غير المادية لبعض المخالفات، ووجد قبولا وتأييدا من قبل غالبية الأعضاء، خاصة في بعض المخالفات التي تتعقبها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرتكبها بعض الشباب، ولكن حتى الآن لا يزال الأمر متروكا لاجتهاد الجهات المعنية، ولم يوجد حتى الآن نظام بهذا الشأن، ولكن الموضوع لا يزال محل نظر في مجلس الشورى وفي غيره». تعكير الصفو باتت نظرة الشباب لأمر تحصيل الغرامات المالية، كعقوبة مرورية، سلبية، فالشاب مبارك الحربي يرفض العقوبات المالية، التي لا يرى فيها – حسب وصفه «إلا زيادة أحمال علينا فقط، ولو طبقت عقوبات أخرى غير المالية في أي مخالفة كانت، لكان النظام أقوى وأشد، فالجميع من الشباب على بداية حياته العملية تعكر مزاجه مثل هذه العقوبات المالية، لاسيما أنه في بداية عمله وربما زواجه ولديه العديد من الارتباطات المالية الأخرى، أما إذا كان الشاب مقتدرا ماليا، فإنه لا يهمه هذه العقوبات مهما بلغت، ولا أعتقد أن هذه العقوبات المالية من تجعل مجتمعنا منضبطا». بدائل أخرى ويعتقد الشاب منصور دوجان أن هناك العديد من العقوبات التي من المفترض أن تحل بديلا لهذه العقوبات المالية «ولو اهتم الجميع بتبديل هذه العقوبات بأخرى، فإنه حتما سيجدون عقوبات أخرى غير المالية التي سببت الكثير من المضايقات لبعض أفراد المجتمع وخاصة من ذوي الدخل المحدود أو الشباب الذين في بداية حياتهم العملية، فالشاب في وقت المراهقة وفي مرحلة طيش كبيرة، فمثل هذه المخالفات قد لا يهتم بها لأنها مالية، ولكن متى ما وجدت عقوبات أخرى فإنه حتما سيتخذ الشاب هذه العقوبات على محمل الجد» .