لا يمكن لذاكرتي أن تنسى عطر المدرسة الابتدائية! لا أدري.. هل هو عطر معلم «الأول الابتدائي» أم هو عطر يرشونه في الأرجاء آنذاك والتصقت رائحته بأنوفنا؟ كل العطور تعيش بي.. كل الأماكن التي زرتها لها رائحة محددة.. رائحة ثابتة مرتكزة.. وحين أسافر لأي بلد أميزه بعطر محدد، وعندي في طاولتي عشرات العطور أحاول أن ألصق كل عطر ببلد محدد، فالرياض مثلا لها عطرها وكذا جدة والدمام وكل بلد خارجي أحاول أن أميزه بعطر. سبب ذلك أن يلتصق العطر بذاكرتي في ذلك المكان، فحين أتعطر «مثلا» بعطر «سي كي ون» كل صبيحة جمعة أتذكر ردهات الجامعة وفتوة العقل وعنفوان الشباب وانفجار الفكر، وحين أجدد روحي وأتعطر مثلا بعطر «بوس» الذي نفدت زجاجته أتذكر أسواق جدة وكيف كنت أتمشى ويدي تمتطي يدها واشترته لي. وحين أرش على جسدي عطر «ديزل الأصفر البراق ذا الوشاح الذهبي» تسبقني ذاكرتي لشوارع الخبر وأرجائها وأعيش في كنفها وأتنقل إلى جسر البحرين وأذكر السينما وجو «الفيشار» في يدي. وحين أحاول أن أعيش جوا قديما «وأحلى الأجواء وقتها» أخرج قنينة عطر العنبر وأمسها فوق كفي وعلى رسغي.. ووقتها كل حركة في قلبي تتحرك، فهي رائحة جدتي «موضي» رحمها الله، وهي رائحة الصفوة والجمال ورائحة مخزون الحكمة وتجارب الحياة، هي رائحة بيت العليا وجلسات الشمس في الشتاء، رائحة غطاء الرأس أو الغطوة.. رائحة الكبير المحبوب الذي يحبه كل الناس من أصغرهم لأكبرهم. وحين أحن للمشايخ، أخرج قنينة الكمبودي وأستل ميله وأمرره بخفة على طرف كفي الظاهري.. وأمسح بكلتا يدي وجهي وطرف لحيتي، فأحس أن مشلحي الأسود فوق ظهري وقد نزعت العقال من على رأسي، ولم يبق سوى أن أسلم على الجماعة وهم صفوف أمام ناظري ويقوم المؤذن ليؤذن للجمعة وبعدها أقف وأخطب، وأتذكر بعدها كل الخطب والمحاضرات والكلمات التي ألقيتها وأعيش روحانياتها وأجواءها. رغم أنني تركت أشياء كثيرة في حياتي، لكن عشقي للطيب وللعطور لم يتغير مع مرور السنين، بل أزداد فتنة وحبا لها كلما مر وقتي وزادت سنواتي، ولحظة أن أتوه في ماهية هديتي أنسل خفية نحو عالمي وأشتري قنينة عطر أخجل من تقديمها كونها وافقت هواي وربما لم توافق هوى من أهديته. لكن يكفي أن يعلم من أهديه العطر أنني أحاول أن أهدي شيئا من روحي معها.. وأيامكم كلها عطر وجمال. مدونة محمد الصالح http://mhalsaleh.net