باتت السياحة لا تعرف المستحيل، وفيما ينظر البعض للفيافي والصحاري على أنها أرض جدباء لا زرع فيها ولا ماء، لا تستحق الحياة، بات هذا الواقع بكل متغيراته وتناقضاته مهوى أفئدة الكثيرين، الذين يتوقون لقضاء ليالي تخييم، وتستهويهم الحياة القاسية بمفهومها العام. وعلى الطرف الآخر ما زال الكثير من سكان المدن ينظرون إلى الحياة الريفية على أنها ذات طابع «شبه رجعي» لا يعرف معنى العولمة؛ فالسير على الأراضي الزراعية لا يضمن للمرء الوصول إلى بر الأمان، في ظل ما يمكن أن تحمله الأقدام والملابس من نفايات تمثل سمات ومقومات الأراضي الزراعية في أية بقاع. لكن في الجانب الآخر، يخرج من بيننا من تستهويه حياة الريف، يسعد كلما غاصت أقدامه في وحل زراعة، ويطير فرحا إذا ما تساقطت على ملابسه فضلات أو ريش طير. من هنا كانت السياحة عنوانا بارزا لكثير من المجتمعات، التي تحيا بإحياء التناقض بين الأرض الموغلة في وحل الرمال، والأراضي المشبعة بوحل الطين. وفي ظل تسارع وتيرة السياحة، واعتبارها أحد المكتسبات التي يجب أن تساهم في نمو الدخل القومي، وفي الموازنات العامة لكثير من البلدان، تولدت الرغبة في إحياء السياحة بطابع لا يخالف العادات، ولا يهمل المتوارث. فبرز بالأمس استثمار الصحاري، بشكل واضح في بعض المدن السعودية، إلا أن التنوع سمة السياحة، حيث طفح على السطح استثمار الأراضي الزراعية. من هنا تصدرت القصيم الواجهة، بإعلانها امتلاك ما يمكن أن يبحث عنه السائح، وبتوفيرها الأرضية الخصبة لنماء السياحة بشكلها الاعتيادي والعصري، مستوحية انطلاقتها من واقعية التعامل مع روح العصر، ومؤكدة أنها تمتلك ما يمكن من إشباع الاحتياجات المثلى لسياحة ناصعة البياض. مزارع أهلية يقولون «نريدها سياحة تراث ومزارع، فلدينا في بريدة العديد من غابات النخيل المتشابكة التي تنتشر في جهات المدينة الأربع، ولدينا البساتين الخضراء، أفلا يكفي ذلك لتشكيل مواقع مؤهلة للسياحة البيئية أو الزراعية؟». ولأن مهرجان التمور الدولي عرف العالم بواقع الزراعة والمزارع في القصيم، فإنك ترى المنطقة يمكن أن تراهن على مزارع سكانها «التي توزع في صفوف متوازية، وبمساحات لا تزيد على خمسة أمتار بين أشجار النخيل، وتتشابك سعف النخيل عند ارتفاعها أكثر من مترين، مشكلة بذلك ظلالا أسفل تلك الحقول وجداول المياه تتحرك عبر الحقول، وهو ما يحرص على مشاهدته الكثير من الراغبين في الطبيعة الزراعية الخلابة». والواقع يقول إن بعض الاستراحات الحالية في المنطقة مستغلة سياحيا، فهناك استراحات عائلية وسط أشجار النخيل المحيطة بها من كل جانب، حيث تزار تلك الاستراحات في أوقات متعددة، وخصوصا في إجازات نهاية الأسبوع، فيما العديد من الأهالي يفضل زيارة حقول النخيل سواء التي يملكونها، أو تلك المنتشرة سواء في غرب بريدة، أو حقول النخيل العالية في الصباخ، التي تقع بالقرب من المجمعات السكانية في بريدة، أو مزارع الأحياء الشرقية من المدينة، وعادة يقصدها أبناء المنطقة نهاية كل أسبوع ويقضون ساعات تحت أشجار النخيل العالية. وهناك يتنقلون بين حقول النخيل، ليقضوا مع أبنائهم إجازاتهم السنوية في شهر أغسطس، مستغلين السكن وسط هذه المزارع، وهو ما يتوافق مع بداية نضج التمور ونزولها إلى الأسواق، في وقت يعود أبناء المنطقة الموظفون خارج بريدة في مختلف المناطق، إلى مواقع أسرهم في بريدة لجني التمور في موسمها السنوي، ومشاهدة السوق ومتابعة العمل مع أهاليهم وتوريد التمور التي تعتبر دخلا أساسيا لكثير من المزارعين من أسرهم. شكل إيطالي يعرف أبناء القصيم أن سياحة النزل أو الاستراحات جربها الإيطاليون، التي بدأ تنظيمها منذ عام 1994، وبدأت في جزيرة صقلية، وذلك رغبة في تحسين أحوال الفلاحين وأصحاب المزارع النائية، واستثمارها سياحيا، خاصة أن لديهم ما يقدمونه للسائح من مناظر طبيعية جميلة، وخدمة سياحية ترفيهية راقية ومختلفة عما تقدمه المدن من ترفيه صاخب؛ لذا يفضل أبناء القصيم التجربة أو الطابع الإيطالي المتمثل في استغلال فضاءات المزارع في توفير الجو المثالي للسياحة البيئية، ويرون أن «إنشاء نزل سياحية وسط حقول النخيل سيكون من أهم عوامل الجذب لتلك السياحة الريفية المطلوبة، حيث إن إقامتها وسط أشجار النخيل وبجانب الخضرة والأشجار يزيدها جمالا، وهو ما يبحث عنه طالب التنزه والسياحة، فيمكن عرض الاستراحات للإقامة فيها عدة أيام، وبخدمات فندقية متكاملة، وبأسعار معقولة، تتناسب مع راغبي الاستجمام والراحة، أو الأسر التي ترغب في تعريف أبنائها بالحياة الريفية، وتجربتها ولو لأسبوع واحد، أو للعرسان الذين يرغبون في تذكر أيام العرس بشكل رومانسي خيالي». توجه لهيئة السياحة ويعتبر المدير التنفيذي لجهاز السياحة بمنطقة القصيم الدكتور جاسر الحربش، أن المقومات التي أوردها، يجب ألا تقتصر على وجهة نظر شخصية؛ لأنها طابع عام، مثلها مثل الرغبة السياحية في المنطقة، «فيمكن استغلال الكم الهائل من حقول النخيل الموجودة على أطراف المدن وفي القرى في منطقة القصيم، وتحويل جزء من هذه المزارع إلى مشاريع اقتصادية صغيرة الحجم كبيرة التأثير، وهذا توجه عالمي يستغل رغبة السائح المتنامية بالبحث عن منزل يختلف عما ألفه من غرف إسمنتية صامتة، وربما نظمنا ورشة عمل حول هذا المشروع». ويتوقع المسؤول الأول عن السياحة في المنطقة أن تزدهر هذه الاستراحات والنزل بشكل يقدم الخدمة إلى السائح دون إضرار بالمجتمع المحلي، بل مع نفع هذا المجتمع، «ولا شك أن أرياف بريدة الغربية تمثل موقعا نموذجيا لإطلاق المشروع، كما أن النزل البيئية أو الريفية ستكون فرصة كبيرة للتعرف على المنتجات المحلية التي تصنع داخل تلك المزارع وهي متعددة الأنواع، ومن أهم تلك المنتجات، الخوصيات». خروج عن العمران تعترف الهيئة العليا للسياحة، بأن دوافع التوجه نحو السياحة الزراعية «هو زيادة الرغبة في الخروج من دائرة البيئة العمرانية المزعجة لمناطق ريفية بسيطة بغرض الراحة والاستجمام، وليبرز مفهوم السياحة البيئية بوصفه خيارا عمليا للاستمتاع بالبيئات الطبيعية والتراث الثقافي والحفاظ عليها في آن واحد». فالهيئة تعرف السياحة الزراعية البيئية بأنها عبارة عن زيارة من دون إقامة أو إقامة لفترة محدودة، وأن يكون الغرض منها التعرف على كيفية زراعة وتنسيق الزهور والنباتات ورعايتها، ودراسة الحيوانات المرتبطة بالبيئة الزراعية وكيفية التعامل معها، وأن الهدف منها هو عملية تثقيفية أو تعليمية وترفيهية وكذلك استجمام. سياحة ناجحة ويقلل عضو مجلس تنمية السياحة في منطقة القصيم عضو مجلس إدارة البنك الزراعي عبدالله الوابلي، من صعوبات التنفيذ، «لن يكون الاستثمار صعبا، خصوصا أن هيئة السياحة تدعم مثل هذه الاستثمارات، كما أن وجود حقول النخيل وتقديم دراسات فيها لإقامة مثل هذه المشاريع، ستجعل الزوار يتحركون تجاه هذه المواقع، خاصة أن مهرجانات التمور تحرك المستثمرين تجاه حقول النخيل الجميلة في مواقع متعددة في منطقة القصيم». وكشف أنه «من خلال إحصائية صغيرة أجريت على بعض الزوار، أكد غالبيتهم أن تجهيز موقع في مكان متميز وسط حقول النخيل سيكون وجهة له ولأسرته، خصوصا في مواسم التمور التي تتحول فيها الحقول إلى ميادين عمل لجلب التمور إلى الأسواق المختلفة». دخل إضافي ويرى عدد من المهتمين بالزراعة أن إطلاق مثل هذا المشروع سيخدم عددا من مزارع النخيل وغيرها، وستكون نواة لمشروع اقتصادي يدر دخلا إضافيا لملاكها، خصوصا التي تقع بالقرب من المدن والقرى. لكن بعض قدامى المزارعين في مدينة بريدة يشددون على أن تلك الفكرة موجودة منذ زمن كبير، «حيث عادة تهب العوائل في مواسم جني محصول التمور إلى حقولهم في رحلة أشبه ما تكون باستجمام، يجنون خلالها محصولهم طيلة 20 يوما، وهم موجودون بشكل مستمر داخل تلك الحقول، يقومون خلال وجودهم بإنشاء ما يسمى بإحضار كبير يضمهم، وعادة يستعينون بسعف النخيل لتظليل تلك المواقع، حيث يسمح سعف النخيل لتيارات الهواء بالدخول، رغم أنها تحجب الرؤيا، ولا تزال بعض تلك النزل البسيطة موجودة ضمن حقول معروفة». كوفي شوب ولا يستبعد المختصون أن يتم استيعاب أفكار الشباب في هذا القطاع، فمزارع النخيل مؤهلة لاحتواء مطاعم وكوفي شوب، تتلون بلون التراث الشعبي لطبيعة مدينة بريدة، كأن تكون مبنية من الطين ومن جذوع وسعف النخيل، فإنها ستمتاز خاصة في الليل بالبرودة وتكون ملاذا جيدا للشباب وحتى العائلات. وأبدى شباب بريدة رغبتهم في أن تكون الفكرة واقعا جميلا يتمكنون خلاله من الحصول على استجمام ريفي رائع؛ لأن «المزارع القديمة يمكن أن تسوق بضاعة جديدة مليئة بالموروث التاريخي، فالشواهد تدل على تاريخ عريق، ولا يكلف الموضوع إلا تفعيل المنشط على كل مزرعة قديمة، وطرق صغيرة مسفلتة للوصول إلى هذه المزارع بطريقة ممتازة حضارية، وبهذه الطريقة يمكن للشباب رؤية كيف كانت الحياة بالماضي على حقيقتها، فأمامه الآبار أو القليب، وبيت الطين، وأيضا يرى النخل تغطي الأماكن، وكيف كانت السواقي توزع المياه بين أحواض النخيل والمزروعات الأخرى، إلى الكثير من الأمور القديمة الحقيقية والواقعية». تكلفة أقل وتعد السياحة الزراعية بالنسبة للسائح المواطن، أقل تكلفة من السياحة في المدن، كما تتميز بالإقامة الجميلة لتميزها بالهدوء، أي أنها سياحة الاستجمام الهادئ المريح البعيد عن الأماكن المزدحمة والضغط النفسي وروتين الحياة الممل، كما أنها سياحة تتوافق مع ما تنشده الكثير من العائلات السعودية المحافظة وكبار السن، خصوصا في أوقات مختلفة من العام، وأيضا في إجازات نهاية الأسبوع، التي يمكن أن تكون مطلبا لشرائح كبيرة من المجتمع ومنهم الشباب الذي لا يوجد له أماكن يذهب إليها. وإذا كانت كل تلك مقومات نجاح التجربة، فإن ما تحتاج إليه العملية لتكوين سياحة زراعية متميزة ومطلوبة، هو أن يتم التعريف بالسياحة الزراعية، وعمل برامج وخطط لها من قبل الهيئة العليا للسياحة، وفتح المجال للمزارع التي يرغب أصحابها في تقديمها ضمن برنامج السياحة الزراعية، وحصر كل الإمكانات مثل الإقامة أو الطعام، وخدمة رجال الأعمال وغير ذلك من تقديم الإعانات أو القروض من أجل عمل بعض المشروعات لتحسين الإقامة في تلك المزارع .