نسمة الهواء الآتية من خلف ليل كئيب تلامس بشرتي، تنفذ في مسام جلدي، تحدث ضوضاء وجلبة في أوردتي، توقظ كابوسي الليلي المتربص. أتقدم بخطى متثاقلة ممسكة بطرف الستارة الرقيق الذي لا يكاد يخفي ما وراءه، أصاب بدوار فأبحث عن متكأ يسندني، أقف قبالة المدينة النائمة أواجه الصمت والنظرات الفاترة لعيون بعض العابرين والمتسللين تحت جنح هذا الليل. التفحص المريب لبعض العيون يقلق وقوفي على الشرفة.. يصبح الهواء خانقا؛ فأتوارى خلف صمتي وستار الشرفة الرقيق، ثم أعود أسحب بصري تجاه أنوار المدينة البعيدة الخافتة، زرقاء، حمراء، وأخرى بيضاء شاحبة تتجاور في غير انتظام وكأنها حبات عقد أفٌلتت وتناثرت في بقاع متفرقة. سكينةٌ تنعم بها هذه المدينة الوادعة، وضجيج هنا في رأسي يُشعلني، يملأ عقلي بجمل ملغومة، أسئلة حائرة، غصة تقف في حلقي، تتباطأ أنفاسي، تصبح أكثر ثقلا وكأن الهواء تلاشى واحترق.. فمي ظمآن، رأسي تمور به همسات وأصوات تتعالى وصرخات تجعل المنظر الساكن قبالتي أشبه بقاعة تعذيب، منصة إعدام.. أرى كأني أتقدم لها ببطء شديد لا شيء يسترني، أنفاسي تهرب من جوفي، العيون تلاحقني، تختلس النظر لجسدي المكشوف، والأفواه تتهامس بجريرتي، الأيدي تتجاذبني. ثمة غيظ يتفجر في شراييني، يغلي في رأسي كما البركان، يخيل إلي أنني أضع قناعا على وجهي، أتحدث لغة بتعبير سري مبهم، أقف أمام حشد كبير جاء يشهد لحظة الحقيقة كما صرخ أحدهم، أجازف باختراقه، أتلقى شتائم ولعنات لا ألتفت إليها، أحاول شق الصفوف أن أصل لذلك الباب البعيد، أشعر بأني أقترب ولا أقترب، يداي تنزان عرقا، تنزلقان وقدماي تصبحان أكثر ثباتا في الأرض وكأنهما جذور خرجت من جوفها ، الحشد يتزايد من حولي والدائرة تضيق وتضيق حتى أكاد أغرق، أطرافي تتراخى وقواي تتخاذل أمامه، ويصبح أملي في الفرار ضئيلا. عبثا أحاول نزع القناع، أصرخ لهم بأنني هي.. أنا هي! لكن القناع ملتصق بجلدي يؤلمني انتزاعه وصوتي يضيع، فأتوقف واهنة والحشد يجرني مرة أخرى متحديا مقاومتي له، وفجأة تمتد يد مجهولة تنتشلني، تحلق بي فوق ذلك الحشد وهو ينفث غضبه محاولا الإمساك بقدمي. وبعيدا، أجدني بين وجوه أعرفها ولا أتذكر أسماءها، يسألونني، أخمن أجوبة أجتر صوتي، أحاول استعادة الذاكرة بكلمات ليست واضحة، أصف لهم الحشد والقناع ومنصة الإعدام، لكنهم لا يفهمون.. ينسلون بعيدا، واحدا، واحدا. أعود وحيدة، والبرد والخوف يلتحفانني، ويدان متشنجتان وجسد يتصلب، تهب ريح هادرة تحمل أصواتا أدركها، تعبرني سريعا تصم أذنيّ، تخترق جسدي كسهام نارية، أسقط أرضا وصوت الريح لا يتوقف، والكابوس راح يحلق بعيدا تاركا جسدي خرقة بالية.. يتراءى لي خيط الحياة ضعيفا واهنا تعبث به الريح الغاضبة، أحاول إمساكه بيدين عاجزتين، أغمض عينيّ وأردد دعواتٍ سمعتها في مكان ما، أحاول إبعاد العزلة، الخوف، والموت.. ثم أغييييب. كتابة قديمة تذكرتها هذه الليلة، والضجيج يملأ رأسي، بينما العالم نائم كما لم يفعل من قبل. منى العبدلي