شهد العراق فراغا سياسيا ودستوريا في السلطة استمر نحو تسعة أشهر، نتيجة الانتخابات البرلمانية التي لم تسفر عن فائز واضح، يستطيع تشكيل الحكومة منفردا، أو بمشاركة فصيل سياسي واحد آخر، مما فتح المجال واسعا أمام بروز الخلافات بين الكتل العراقية على مدى الشهور الماضية، والتي تجسدت على خلفيات خلافات ومناورات وانقسامات عرقية وطائفية كانت نائمة واستيقظت مع الغزو الأمريكي للعراق قبل سبع سنوات ونصف السنة والإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وقد ظلت الخلافات طافية على السطح حتى اللحظة الأخيرة لإعلان تشكيل الحكومة، الذي أعلن عنه أكثر من مرة ثم تأجل، وكان التأجيل الأخير أمس الأول الذي كان من المفترض أن يشهد ولادتها المتعسرة، انعكاسا للخلافات العالقة والمناورات حول توزيع الحقائب الوزارية، ومحاولة من الأحزاب السياسية للحصول على تنازلات من رئيس الحكومة العراقية المكلف نوري المالكي، فيما يتعلق بالتعيينات الوزارية، ولمنح كل الكتل فرصة لمراجعة الترشيحات، ولوضع اللمسات النهائية على اتفاق، والتوصل إلى توافق في الآراء، ووفقا لتصريحات رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع المالكي، سيكون هناك اجتماع لمجلس النواب للتصويت على الوزراء منفردين، وعلى المنهاج الوزاري لمنح الثقة للحكومة الجديدة. ومع انسحاب آخر وحدة قتالية أمريكية من العراق في أغسطس الماضي، فإن الحكومة الجديدة تدخل هذه المرحلة المجهولة مما يمكن أن نطلق عليه الحكم الذاتي، فقد حان الوقت لكي تدرك الفصائل السياسية المكونة للحكومة أن أمامها تحديات وتغيرات على عدة جبهات، الجبهة الأولى: أن الحرب القادمة سوف تستمر في التحول من صراع عسكري واسع الانتشار مع عناصر القاعدة وغيرهم من الناقمين على الوضع الحالي، إلى حرب مخابرات ذات هدف كبير، وبينما قلت الهجمات في العراق بنسبة 60 %، وذلك طبقا للتقارير العسكرية العراقية والأمريكية، فإن تنظيم القاعدة في العراق حتى وهو في النزع الأخير، مازال يحرك خلايا العنف الراقدة في محاولة منه لتأكيد وجوده. وبالتوازي مع هذه الحرب المخابراتية، فإن الحكومة الجديدة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى العراقيين بشن حرب مفتوحة لا هوادة فيها على الفساد، حيث تتذيل العراق مؤشر الشفافية الدولية، وتتصدر مع أفغانستان والصومال وبورما قائمة أكثر دول العالم فسادا لعام 2010، وهو ما يعترف به تقرير جديد أعدته لجنة مكافحة الفساد بالعراق، فهذه المشكلة لا تزال معقدة وواسعة النطاق، فقد تخلصت وزارة الداخلية العراقية وحدها من أكثر من 62 ألف موظف بتهمة الفساد في العامين الماضيين، ولكن المشكلة ليس بها أي مبالغة، فالفساد بالفعل هو التمرد الثاني في العراق. والجبهة الثالثة في الحرب من أجل مستقبل العراق، والتي يتعين على الحكومة الجديدة خوضها، هي الجهود التي تبذل من أجل إعادة بناء الخدمات والبنية التحتية الملائمة. إن البلاد مازالت غارقة في الدماء، ومازال الكثيرون يعانون الفقر، ووجود الظلم والفقر يؤدي إلى زيادة حالات التمرد التي تغذيها الأعداد المتزايدة من المهمشين والساخطين، كما أن نقص الخدمات الأساسية يعمل على تآكل الدعم العام للجهود المبذولة من أجل توحيد البلاد في ظل الأهداف السياسية القومية المشتركة، تلك الجهود التي لا تزال محدودة ومقيدة، بفعل الاحتلال والانقسامات الطائفية التي تعمقت خلال السنوات الأخيرة. إن أفضل طريق للعراق هي بناء دولة مستقرة آمنة، يمكنها أن تقف على قدميها دون أي تدخل أجنبي، فهل الحكومة العراقية الجديدة مؤهلة للقيام بهذا الدور، ومواجهة تلك التحديات.. فلننتظر الإجابة خلال الشهور المقبلة .