المحاكمة التاريخية التي بدأت أخيرا لنحو 200 شخص ينتمون للمؤسسة العسكرية التركية ذات النفوذ التاريخي في إدارة شؤون الدولة، بتهمة الإعداد لانقلاب عسكري عام 2003، كان يهدف لإلقاء البلاد في أتون الفوضى، وإثارة توترات مع اليونان، بما يسمح للجيش بإعلان حالة الطوارئ في البلاد، والإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية ذات الميول الإسلامية، بعد مرور شهور من توليها السلطة. تشكل تلك المحاكمة أول تهديد مباشر ضد هيمنة الجيش التركي التقليدية، حامي حمى العلمانية الذي كان يلعب دورا كبيرا على الساحة السياسة، قبل تولي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عام 2002، في خطوة اعتبرت تأكيدا قويا لسلطة الحكومة على الجيش، وهو ما تشهده تركيا الحديثة للمرة الأولى منذ عدة عقود. ويزيد من أهمية المحاكمة وسخونتها، أن قائمة المتهمين تضم ضباطا كبارا، بعضهم متقاعد والبعض الآخر ما يزال في الخدمة، تم إيداعهم السجن لحين تمام إجراءات المحاكمة، يواجهون عقوبات بالسجن لفترة تتراوح بين 15 20 عاما، ومنهم الجنرال المتقاعد جيتين دوغان الذي يشتبه في أنه العقل المدبر لخطة زعزعة استقرار السلطة، ومنهم القائدان السابقان: للبحرية أوزدن أورنيك، ولسلاح الجو إبراهيم فيرتينا، وهي أسماء ووظائف كان مجرد الاقتراب منها وترديدها في مراحل سابقة يثير الارتباك والذعر، الأمر الذي قد يزيد التوترات بين جيش تركيا العلماني وحكومتها الإسلامية المعتدلة. وإذا كانت هذه المحاكمة تشكل تقدما كبيرا نحو إرساء الديموقراطية في تركيا، واحترام دولة القانون من قبل الجيش الذي سبق أن أطاح بأربع حكومات منتخبة منذ عام 1960، فإن الأوساط المؤيدة للعلمانية ترى في هذه المحاكمة والاتهامات الأخرى بالتآمر وسائل ضغط من قبل الحكومة لإسكات المعارضة، والتمكن من تنفيذ برنامج عمل يخفي في طياته أسلمة البلاد. ولكن ما يضعف هذه الحجة، أن الكشف عن تفاصيل المخطط الانقلابي العسكري، وتسريب وثائق ومحاضر اجتماعات العسكريين المتهمين، وذلك للمرة الأولى في يناير 2010، كان عن طريق صحيفة «طرف»، وهي صحيفة ليبرالية تركية، أبعد ما تكون عن توجهات حزب العدالة والتنمية، الأمر الذي يؤكد أن المحاكمة هي جزء من مساع متواصلة للحكومة التركية لتعزيز الديموقراطية في البلاد، ولفرض مزيد من الإشراف المدني على الجيش.