ربما تكون الوجودية أقرب الفلسفات - التي ابتدعها الأفاكون - إلى نفسه.. فهي تتيح له أن يؤمن بذاته مترفعا عن زحام الجماعية المملة دون أن يسرف في أنانية مفرطة أو عدمية بلهاء على حد كذبة سارتر. لا يحب أن يتفلسف كثيرا.. لكن النساء عادة يستدرجنه بحنكة إلى هذه «العتمة المبهرة»، وعليه أن أوقد من الشمع ما يكفي لليلة بوح ساحرة يستعرض فيها تشريحا عرضيا لعقله ونفسيته.. فلسفته في الحياة مزيج من الأبيقورية التي تتقاطع مع ما يقوله هنري ميلر في مداراته الرجيمة، ومن اللامعقولية التي فسرها صامويل بيكيت في محطة انتظاره الطويل ل «غودو» الغائب في المطلق كرمز يسخر من عبثية انتظارنا نحن للأماني العصية على التحقق. لديه أيضا ميل طفيف إلى مثالية واقعية لا تبلغ ما يزعمه أفلاطون من تطرف في أحكامه الأخلاقية على الذات والمجتمع. تحكمه «الفوضى الخلاقة».. رغم أن هذا المصطلح أصبح مبتذلا بصورة مستفزة.. لكنه يميل إلى الفوضى التي «تنظم» حياته بعشوائية مذهلة!. يحب الحياة رغم يقينه أنها بأقدارها الساخرة تلقيه – رغم فتنته بها - إلى حتفه. يحبها.. لا لقدرته على مجاراة فطنتها، بل لأنه أعرف أنها تحنو على من يحبها وتعطيه من ملذاتها أكثر مما يستحق. يقرأ كل ما يحمل بوادر الدهشة.. أي النص القادر بين عبارة وأخرى على سحق الذائقة وبعثها من مرقد العادي والعابر إلى فسحة المثير والمشكل. أحب ألبير كامو في سخريته المبطنة من جدوى البقاء.. وهنري باربوس في جحيمه - النعيم.. والملعون بودلير في تفاهاته الباريسية اللطيفة.. أحب كولن ولسن حين فسر له ما يعنيه الوقوف على مسافة من الانتماء دون شعور بالتيه. أحب جرأة مارغو يوسا أو وقاحته - إن شئتم - في تنزيه الناقص والدنيء.. أحب الكذب الصادق في استدعاء إيزابيل الليندي لطفولتها إلى فضاء موغل في الغرائبية. أحب الكثير من الكتب التي تشبهه في اللانمطية والخروج على المألوف.. رولان بارت مثلا حين أرشده إلى الذائقة المتطلبة في تقييم النص. محمود درويش في التقاطه للمهمل وتدويره من نفاية إلى قصيدة معجزة!. من العسير حقا أن نسترجع جميع أصدقاء خلوته في غمضة ذكرى.. ويبدو أنه يحب الكلام كثيرا.. وإن لم تقفلوا فمه، فلا بد أنه سيستمر في هذا النزيف الجميل حتى الصباح. أحب في ختام هذه المرافعة أن يشكر النساء على سحقهن لنفسيته.. إذ لطالما أتحن له أن يقف أمام صفحة «الوورد» منسلخا عن ذاته التي لم يشاهدها في لحظة عري فكري منذ زمن بعيد.