على الرغم من حداثة هذه التجربة، إلا أن هناك طلبات تردني، ولا أقول اقتراحات، لأن الاقتراح أمره هين في مقابل طلب تعلم مسبقا بأنه قد يفسد للود قضية، فهي طلبات للكتابة حول موضوع ما أو حول قضية راهنة، وأتفهم الطلب جيدا متمنيا إجابته بما يستحق، لكن ما يحصل أنني أدخل في حالة أخرى غير مفهومة بالنسبة إلي، على الأقل من الحيرة والمقاومة من قبل هذه الذات الكاتبة، ليس بسبب عدم قناعة أو تعاطف مع الحدث، فالتعاطف قد يكون على أشده، بل لأن الكتابة من أجل الكتابة أو من أجل حشد أصوات فقط دون أن أكتب ما يمكن اعتباره قيمة مضافة هو في تقييمي الخاص إساءة لي ولهذه القضية. حين أكتب كما أفعل الآن، فأنا فعليا أفكر في اللحظة ذاتها، ولكن بصوت حرفي مكتوب وهذا التفكير بحاجة إلى معرفة معقولة حول الموضوع، كما أنه بحاجة إلى مسافة تفصلني عن الحدث لأرى الصورة بشكل أوضح، ولكي أستطيع الاقتراب منه شيئا فشيئا حتى يتشكل رأيي الخاص، وبالتالي فإن الرأي هو خلاصة هذا التفكير المكتوب لا بدايته. اتفقت مع أحد الأصدقاء على تفكير مشترك بأن لكل كاتب مزاجا سريا يتعدى طقوس الكتابة المكانية والزمانية ليلامس طبيعة الإدراك الفردي المتفاوت باعتباره خليطا من الأفكار والمشاعر، لذلك أعلم تماما أن ما أدعيه هنا قد لا يكون هو ذاته ما يشعر به شخص آخر حين يكتب، وهنا أصل إلى القضية الأعم وهي أن محاكمة الكتاب جميعا واعتبارهم متملقين أو جبناء على أساس من صمتهم حيال قضية اجتماعية، مهما كان وضوحها بالنسبة إلى الملأ، هو امتداد لثقافة شفهية ثنائية لا تقبل سوى بالمدح أو الهجاء، ولا تعترف سوى بالشجاعة أو الجبن، ونتائج هذه الثقافة تحريض وتأليب غير محمود العواقب اجتماعيا وفكريا. وعلى العكس، فإن المدنية الحديثة تعترف لك بحقك الفردي في أن تكون مع أو ضد، وفي أن تصمت تماما أو تتحفظ حيال أمر ما حتى وإن اجتمع حوله من اجتمع، وهذه الأخيرة بالذات لا أبالغ إذا قلت إنها خلاصة هذا الفكر النقدي العقلاني وخلاصة هذه القيم الحديثة، حيث تجاوزت الثنائيات القطعية إلى النسبيات المرنة، واستطاع الكاتب من خلالها تعليق أحكامه الشخصية دون أن ينصاع لحكم الجماعة إلى حين يقرر هو ما يريد، وإلا فإنه سيستمر في صمته كما سيستمر غيره في عمله ويبقى للجميع كل التقدير والاحترام. هذا المقال مثلا كان بناء على طلب بخصوص موضوع مختلف، حاولت تلبيته، لكن المقاومة والتفكير الكتابي والمزاج السري عموما انتهت بي إلى هذا الرأي الذي بين أيديكم، والآن أتساءل ألا يزال مزاجي السري في الكتابة سرا؟