في بيت يتقاسمه عشرة من الأبناء، لم يجد عبدالله العقيبي، العنصر التاسع، سوى درج صغير ليدس فيه دفاتر الكتابة وكراريس الفن وأشرطة الأغاني التي اختار لها أن تختبئ في دولاب صغير لم يكن جديرا بهذه الكنوز الطفولية الهادرة، لأن مجرد تحريكه قليلا كان كافيا لاكتشاف محتوياته، ففر العقيبي بأسراره بحثا عن دولاب يكون ظهره حائطا! حين يتحدث العقيبي عن تعلقه بوالده، بائع السمك، يتذكر كيف قضى وهو طفل إجازته الأسبوعية نائما أمام باب البيت:«كان أبي في ال70 حين ذهبت إلى المدرسة، ورغم ذلك كان هو المربي الصديق، فأيام الخميس كنا ننام أنا وأخي الأصغر أمام باب الشقة لكي لا يفتح الباب ويهرب منا إلى سوق السمك!». أيام الدراسة لا تعمر طويلا، حسبما يتذكر العقيبي «مراحل التعليم مرت سريعة، بمساعدة الإخوان والأخوات، خاصة أختي التي كانت تصرخ: اكتب.. اكتب.. اكتب». وفي خضم هذه الأجواء لم يفكر أحد من أفراد الأسرة في الإفصاح عن هواياته، إذ لا مكان لممارسة أي نشاط «فشرط ذلك أن تجد مكانا للممارسة، وهذا لم يكن متحققا بسبب الازدحام!». لذلك اختار العقيبي أن يقتسم حجرة ليست له ليواصل العناية بشجرة وليدة، وربما بدأ منذ ذلك الحين ينصت للأمواج التي سجل فيما بعد حكايات صوتها في مجموعته القصصية «صوت الموجة»: «في المرحلة الثانوية كان صديقي محمد له غرفة خاصة وهاتف خاص وسيارة خاصة، وكنت أقتسم معه أشياءه، وأخبئ كل شيء عنده حتى الأسرار والرسائل والهدايا». وفي الجامعة تكون الأمور مختلفة عادة، أو ربما يكون الشخص مسيرا لا مخيرا حين يتعلق الأمر بالتخصص «كنت أتجه إلى قسم اللغة العربية، ولم أتوقع أن أصبح مدرسا، لكن ذلك لم يكن غريبا عما حولي، فمعظم أصدقائي وجدوا طريق التدريس ممهدا، وفي تلك المرحلة بدأت النشر والقراءة الطويلة في مكتبة الجامعة والأندية الطلابية، وهي أيضا كانت مرحلة خصبة جدا لكتابة الشعر». كان العقيبي بحاجة إلى ولادة أخرى حتى يكمل حلقته المستديرة التي قضمتها الرتوش الاجتماعية، فلجأ إلى هجرة أخيرة: «هناك ما يمكن أن أسميه نقطة مفصلية في حياتي، وهي الخروج من جدة.. هو بمثابة ولادة أخرى. الخروج من جدة كان كالخروج من الجرة.. جرة مليئة بالأهل والأقارب والأصدقاء الذين لا يتم اختيارهم بعناية في بعض الأحيان! ويمكنني أن أقول: إن مرحلة ما بعد جدة هي سفر وحيد ممتع على أثره جاءت الزوجة الحبيبة والأبناء وكتابي الأول أيضا».