لا يختلف الأمر عن فكرة «الفزعة» في ثقافة مدارسنا الابتدائية، فالقناة الثقافية أعيتها الوسائل لإقناع منتقديها، ولم يعد لديها حل آخر سوى أن تتجه إلى أكثر الظواهر نفوذا جماهيريا وحصانة إعلامية، وبدلا من أن تخصص دقائق من وقتها لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري ليتحدث عن أم كلثوم مثلا، قررت أن تأخذ مسألة الغناء «من الآخر» وتأتي بالفنان خالد عبدالرحمن وهو يغني متقلدا طوقا من الياسمين!. تغيرت اللعبة إذن أيها الإعلاميون، ولم يعد نقد هذه القناة يخضع للقواعد نفسها، فمعها الآن «أبو نايف»، وأنتم أعرف الناس بما يعنيه هذا، فالرجل لن يضطر إلى أن يفعل فزعات مثل فزعات الابتدائية ويسألكم «وش عندكم هنا يا شباب؟»، لكنكم ستعيشون الدور حين ترتعد فرائصكم وتغادرون متمتمين «لا ولا شي، أصلا هذي أحسن قناة في العالم». الهرب تصرف واقعي بالنسبة إليكم أيها الغيورون من النجاح، والحاسدون له، بغض النظر عن «غياب الاستراتيجية أو تقليدية البرامج أو احتكار الشاشة» وكل الكلام المهني الكبير الذي لن يكون مفيدا لكم فيما لو تصدت لكم الآلة الدفاعية الضاربة لجمهور مخاوي الليل، وحينها ستشعرون بفداحة أن يكون الإنسان إعلاميا، وكيف أنها فداحة تتضاعف حين يكون له رأي في قناة عادية ليس لها من الأمر شيء غير أنها قالت لشخصية جماهيرية نافذة «أنا في وجهك»!. فزعة المنطق الوحيد الذي استخدمته القناة الثقافية هنا هو «اللي تغلب به العب به»، فخالد هو الفزعة التي جاءت لتكون جزءا من الخطة البرامجية في إحدى الليالي التي كان يمكن ملؤها بحوار مع أدونيس أو تقرير عن درويش أو حتى ميشيل خليفة. إنها الطريقة الوحيدة للانتصار بغض النظر عن مدى ملاءمتها لما يحدث عادة، فما الذي يمنع استبدال دقائق من قاعة محاضرات تناقش قضية ما بعد الحداثة بمقاربات فكرية بدقائق من مسرح المفتاحة في أبها يناقش فيها أبو نايف فكرة «التذكار» من وجهة نظر عاطفية، فهو ليس تحولا كبيرا على أية حال، وليست خسارة في شخص يمكن أن يجعل القناة بمعزل عن النقد ابتداء من الآن!. ستجد الثقافية العذر، أليس خالد ظاهرة فنية مؤثرة على المجتمع؟ إذن فهو يصنع «ثقافة» اجتماعية عبر صوته، ثم أليس هو مخاوي الليل؟ والليل ملهم الشعراء، والشعر أدب، والأدب «ثقافة»؟ وإذا شئتم فثمة القاعدة الأوسع التي يتشبث بها أنصاف المثقفين والإعلاميين لتبرير التقاطع مع أشياء لا علاقة لها بما يفترض عليهم فعله: «كل شيء في الحياة.. ثقافة». لا شيء مستحيلا، حتى المطرب الذي كان المثقفون يتعالون عليه بحجة أنه يمثل «عامة» لا يرقون لمستوياتهم النخبوية المهيبة، سيصبح الآن اسما قابلا للتداول الثقافي دون وجود أي حرج مثلا من ذكره في سياق حديث الأدباء عن ذوقهم الفني المعروف سلفا. سيقول المثقف الآن في لقاءاته الإعلامية ألا شيء ينازع عشقه لأغنية «يا طير..يا طاير على طراف الدني» لفيروز، سوى «يا طير وضبتك بتدريب» لخالد عبدالرحمن، ولا صوت أوصله لطربية «أعطني الناي وغنِّ» سوى «تعطيني الود ولا تاخذه مني»! القناة بحاجة إلى شخصية قوية، وما دام الدكتور عبدالله الغذامي ينحاز إلى الهدوء، ويجدول مواعيد نومه مبكرا، ولا يحبذ كثرة الظهور الإعلامي، فضلا عن مواقفه التي تحرجهم بصراحتها،لا حل أنسب من التوجه نحو «كاريزما» خالد عبدالرحمن، فهو من سيصنع القبول، الرجل قابل جدا ليكون الوجه التليفزيوني المؤثر، خصوصا أنه يستطيع الحضور في برنامج سهرة، وليس لديه موقف واضح تجاه انتخاب مجالس الأندية الأدبية، سيتطلب هذا تعديل الدستور النخبوي الخاص تحقيقا لمصلحة عامة، والمبادرة سريعا نحو تغيير المواقف تجاه الرجل وفنه وقصائده الفصيحة ونوعية جمهوره «قد يتعين عليهم في أسوأ الاحتمالات تقديم اعتذار عن وصفهم له بفنان المراهقين في مرحلة سابقة». هذا المطرب يمتلك بعدا ثقافيا رائعا، فالكلام عن أخطاء نحوية في قصائده ناتج قطعا عن ضيق الأفق اللغوي وسوء التقدير البلاغي، كما أن دعمه المطلق للعامية يعد أمرا قابلا للنقاش الموضوعي وصانعا للحراك الثقافي، إنه الصوت القادم من أقصى نقطة في وعينا الجمعي، وكلها عبارات ممكنة جدا في مؤتمر صحفي محتمل ستعقده القناة الثقافية للإعلان عن سياستها الجديدة في «المنطقة» الإعلامية، بحضور ممثلين عن جمهور الفنان الكبير وعن الشركة المنتجة لألبوماته، وبالتأكيد ستتعامل عناصر الوسط الثقافي المعروفة ب «التفاعل» بمسؤولية بالغة تجاه الأمر. سامريات ثقافية قد نرى مثلا ندوة للسريحي بعنوان «حضور التراث في الأدب المعاصر.. مخاوي الليل نموذجا» كما ستدفع لنا مطابع المركز الثقافي العربي بكتاب نقدي جديد للبازعي هو«أثر الصحراء والقنص..في اصطياد ملامح النص»، وقد يشارك عبدالله الحيدري في مؤتمر النقد الأدبي بورقة عنوانها «المواءمة الأسلوبية بين أطلال ناجي..وأغنية لا لا تناجي»، ويعجب الجمهور بمقالة معجب الزهراني «لفت الأنظار إلى جماليات ألبوم عقد وسوار»، ولا يدخر حامد بن عقيل صراحته المعهودة فيصرح «أبو نايف..لا أستطيع أن أسمع شعره..» مهلا أيها المخرج لم ينته التصريح بعد: «إلا ويخطر في بالي أبو تمام». واستمرارا للمشهد، ربما يتناول يوسف المحيميد العلاقة الوثيقة بين رائعة ساراماجو «العمى» وأغنية خالد «أرجوك يا من ترى»، ثم يظهر عبده خال في حوار تحت مانشيت «صوت خالد يمثل العمق الفني في رواياتي» وذلك في صحيفة يقرؤها زوار النادي الأدبي الذين يشهدون انطلاق أسبوع «الجلسات» النقدية حيث سيعلن أيضا عن استبدال «المسامرات» بالسامريات، ويصبح تقديم الشعراء الفصحويين «شيلات» منبرية أمرا عاديا. سيكتب محمد العباس عن أسطورة التاريخ الشفوي الكامنة في «تقوى الهجر»، ويردد صالح المنصور في كل مداخلة له «أحببت الناس والأجناس، دلايل رهفة الإحساس»، ويعكف خالد اليوسف على جمع ببليوجرافيا لأغنيات مخاوي الليل، ولأن جمهور خالد سيمثل نسبة لا يمكن تحييدها من مئات الألوف الذين سيزورون معرض الكتاب فمن المهم تخصيص مكتبة سمعية لتقديم مقاطع حصرية من الألبوم المقبل «لن يكون هذا خبرا جيدا لدور مثل الساقي والجمل» قبل أن يحضر الجميع ليلا محاضرة الدكتور فواز اللعبون بعنوان «ألبوم أعاني..لماذا الاعتماد على الشاعرات فقط؟» وذلك في «خيمة الازدهار» أو ما كان يعرف سابقا بالإيوان الثقافي الذي سيحوله محمد عابس إلى بيت شعر على طريق المطار. وقد يكتب خالد الرفاعي بحثا يتناول فيه من زاوية نفسية وثقافية طبيعة الدوافع الشعورية في أغنية «الحزن الأكيد»، وتخصص القناة فترات لإلقاء مقاطع شعرية من ديوان«العطا» الذي طالبت جماعة بيت الشعر بإدراجه في المناهج التعليمية بعد حلقة تليفزيونية جمعت الرشيد والمعيقل في حوار حول قصائد الديوان الفصيحة والمحكية. ولن يتأثر هذا الجو الطليعي طبعا بحادثة عابرة تمثلت في تقديم وفد من منتديات ملك الفن في الإنترنت خطابا يطلب فيه توضيحات مقنعة حول مقالة محمد الهويمل عن «رأي فولتير في الظواهر الصوتية» إذ سيتعامل المثقفون بمسؤولية إزاء الأمر، ولن يكون هناك داع لتقديم الاعتذار لا سيما أن الهويمل سيقيم منبر الحوار القادم تحت عنوان«النخبوي والشعبوي..الكذبة التاريخية»، كما أن «الثقافية» ستقدم بادرة حسن نية إضافية بإقامة مسابقة للمواهب الشابة لكتابة نص فصيح من وحي أغنية «ياللي بهواك محكوم..قلبي عليك يا وجده». في ظروف كهذه، ولأسباب مرحلية تتصل بالأمانة التاريخية، سأحتاج إلى أن أكون صريحا، فمنذ أن كتبت كلمة «على» في بداية المقال وحتى اللحظة التي سأضع فيها الفاصلة التالية، ليس لدي ما يثبت أن القناة الثقافية سترسل فريقا ميدانيا لتغطية مشاركة فنانها النجم في رالي حائل، كما أنني لا أضع في ذمتي شيئا بخصوص الحديث عن احتواء الألبوم القادم له أغنية من كلمات ميسون أبو بكر، فكل ما أعلمه أن جمعية المسرحيين لن تستطيع تمويل المهرجان المقرر بعنوان«خالد..أبو الفنون الجديد» وغالبا ستقدم عوضا عنه عرض مونودراما يجسد أغنية «روح روحي». وهذا كله لا ينفي تأكدي بشكل كبير أن باحثا ما سيناقش رسالة ماجستير في الأدب يستعرض فيها عدة خصائص فنية ونقدية مفادها أنه من غير الوارد أبدا أن يكون خالد عبدالرحمن قد غنى «شد رسن الخيل» دون أن يقرأ بورخيس على أقل تقدير، ومتأكد أنا بشكل أكبر- وللاعتبارات التاريخية ذاتها- أن نسبة معقولة من جمهور الفنان السعودي الذي يغني منذ عقدين سيمثل بالضرورة أحد مضاعفات الرقم الإجمالي لمشاهدي القناة الثقافية. الأديب وحيد القرن إنه الوقت الأنسب لتوجيه الشكر لقناتنا لأنها منحتنا وقتا للطرب مع فنان بهذا الحجم، إنهم ينفتحون على كل الأطياف ويؤكدون أن بإمكاننا أن نتابعها دون أن نشعر بالرغبة المجنونة إياها في تغيير القناة، أو الندم على وقت المشاهدة كما كان يحدث لنا حين كنا نتابع فيها أفلاما وثائقية عن سيرة وحيد القرن الإفريقي مثلا، فالاستماع إلى أغنية جميلة ولو «بالعامية» يبقى أفضل من الاستماع إلى مذيع مرتبك لا يبدع في شيء أكثر من العبث بقواعد اللغة العربية الفصحى، كما أن متابعة مسرح المفتاحة وهو ينضح بحماس جمهور خالد، تظل خيارا أكثر متعة من تسمير أعيننا على «كومبارسات» البرامج الثقافية وهم يمثلون دور الخلفية بطريقة «صنمية» متبلدة دون أن يرف لأعينهم طرف أو يهتز لأشمغتهم طرف. القناة التي يختزلها البعض في أشخاصهم، ويتهم أغلب من ينتقدها في نواياه، لم تكن بحاجة إلى استشارة روبرت مردوخ فيما يتعلق بانتهاج استراتيجية إعلامية ناجحة، فاستراتيجية «أنا في وجهك يا أبو نايف»، تقوم بعمل جيد في هذا الشأن، ليس من السهل أن يضعك جزء بسيط من ذلك الجمهور في دائرة اهتماماته بعد أن بقيت تتعالى عليه لعقود، السهل هو أن تعيد النخبوية نظرها نحو الشعبي وتسعى إلى اجتذابه تمهيدا لدمجه في النسيج الثقافي بدلا من إعادة إنتاج المواد الثقافية الممجوجة للمثقفين أنفسهم في كل مرة، إنها الفكرة التي وصلت متأخرة جدا وربما لم تصل بعد للقناة الثقافية فيما لو تأكدنا أن غناء خالد عبدالرحمن –لا فيروز- فيها كان حادثا برامجيا عرضيا. على الأغلب فإن الحادث العرضي قد يكون حدث في تأويلات ذهني أنا، حينما كنت أسمع خالد يغني في الثقافية «لا تحسبي سرك من الأسرار، اللي على الجنسين تفشيها، منك الخطايا انتهت باعذار، وعيونك النكران معميها»! ولأن بث أغنية واحدة على الأقل لفنان محبوب لا يعني بالضرورة أن جمهوره لن يكون قادرا على الرد، فمن المهم أن نقول إن القناة الثقافية قناة رائعة وعظيمة، وأن مسؤولها الذي يقول لضيوف البرامج «شايفنا فاضين الحين؟»، يقوم بأدوار جميلة وثيقة الصلة بتخصصه الدقيق في الثقافة، كما أن معديها الذين يتصلون على طريقة المقاولات من حين لآخر ليطلبوا منا ترشيح «ضيوف» هم إعلاميون مهنيون ويتابعون الساحة جيدا، حتى الأقلام التي تنبري دائما لتغييب النقد المهني تحت مقولات كبرى من قبيل «إنه مشروعنا الحلم، دعونا نحققه». هي أقلام نزيهة لم تسمع في حياتها بالقمع ولا شأن لها بهوس التملق والظهور، لن أجرؤ على انتقاد قناتنا العزيزة بعد الآن وإذا فعلت ذلك فسأضطر إلى الاعتذار متعللا بقهري لأنني قدمت لهم أفكارا ورفضت «حلوين كذا يا جمهور ملك الفن؟». خالد شخصية رائعة وغالية علينا، ولم أتوقع يوما أنني سأحب هذه القناة لولا أنها جاءت به ليكون «فزعتها»، وطبعا لن أقول سوى «على عيني وراسي» أنت ومن في وجهك يا أبو نايف. لكن اسمح لي فأنا مضطر إلى إنهاء المقال هنا، فبعد دقائق سيبدأ برنامجي المفضل في القناة الثقافية، الذي سيناقش فيه الدكتور عالي القرشي الارتباط الدلالي الميتافيزيقي بين قصيدة محمد العلي «لا ماء في الماء» وأغنية مخاوي الليل «يا عطاشى..عطاشى» .