ليس متصورا أن يعتقل صوت جارة القمر الفنانة اللبنانية الكبيرة فيروز بمنعها قضائيا من إعادة تقديم أغان ومسرحيات الأخوين الرحباني من قبل ورثة منصور الرحباني شقيق زوجها عاصي. ربما كان القضاء موضوعيا حد الإفراط في تعاطيه مع قضية متوافقة مع المعايير القانونية، ولكن انسحاب سلطته على وضع فني بامتياز، يجعله غير موضوعي، لأن فن فيروز ملك لجمهورها وهو ذو قيمة معنوية لا تتداخل مع المعايير القانونية والقضائية، حتى وإن امتلك خصومها الاشتراطات المانعة لأدائها من موروثها الفني على نحو منعها من إعادتها لمسرحية «يعيش يعيش» التي كانت قد عرضتها عام 1970، واصطدمت بقرار الرفض من مسرح كازينو لبنان، بعد أن تسلمت إدارة المسرح رسالة قانونية من ورثة منصور الرحباني بذلك. جوهر الخلاف يعود إلى أن ورثة الرحباني طالبوا فيروز باستئذانهم أولا قبل إقدامها على أداء أي من أعمال الأخوين الرحباني، وبإعطائهم الحقوق المادية عن تقديم تلك الأعمال في أي مكان تذهب إليه. لقد تجاوزت فيروز من يمنعها أو يشترط عليها تقديم فنها، ذلك أصبح مما لا يملكه أحد عليها، فتاريخها الفني وحده الذي يحاسبها ويمنحها دوما جواز العبور فوق وعبر كل محنة أو أزمة، وجارة القمر أصبحت أكبر من أن يتم منعها من الغناء في أي مكان، ولم يعد منصفا المساس بها باعتبارها أيقونة فنية عربية خالصة كتبت خلال نصف قرن من مسيرتها الفنية اسمها بأحرف من نور في جبين الفن العربي، ولم يعد من يقدم لها أغنية أو مسرحية يمتلك الحق القانوني لمساومتها أو استئذانها في تقديم ذلك العمل. تاريخ فني عميق كتبته فيروز في أحشاء الذاكرة الفنية العربية والعالمية، ولم يعد مجديا طمسه بقرار أو حكم قضائي، فهي سفيرة متوجة بحب الجماهير على امتداد العالم العربي، ولا يمكن أن يحول أحد بينها وبين الجمهور العاشق لفنها، فقد ارتبط بزهرة الفنون واشتم عبقها عبر أجيال فنية متعاقبة حتى أصبحت الذاكرة الفنية والموسيقية والغنائية تضعها في مقدمة الملايين الذين عشقوا أعمالها ووضعوها حيث تستحق من المجد، وذلك لا يمكن أن تطمسه اشتراطات ورثة، ففيروز لا تستأذن أحدا لتعطر الفضاء بصوتها، فجمهورها دائما يمنحها الضوء الأخضر في أي مكان وزمان. ليست تلك قضية يمكن أن تنال من فيروز، فالحيثيات في سياقاتها القانونية تمنحها حق الملكية الفكرية لزوجها الراحل عاصي الرحباني، وسلطة الجمهور لا تسمح بمقاضاتها، فانسياب صوتها عبر العقود الماضية يجعلها تمر وتعبر وتتجاوز، فهي أكبر قيمة وأطول قامة من أن تحبس في دهاليز القضاء، ويمكن لكل منا أن يسمعها تهمس في وجدانه بأحلى أغانيها عبر الأعوام الطويلة، فقط هي المفارقة في أن تمنع بقوة جبرية من أن تقف أمام عشاقها وتمنحهم تلك السعادة الاستثنائية التي يشعرونها وهم بحضرة النغم الجميل والطرب الأصيل. تعبر بنا فيروز دوما جسر القمر، وتضيء الليل بقناديل الجمال، وتوقظنا صبحا على جبال الصوان وتنعشنا بأنغامها الفريدة وصوتها الشجي، فلذلك هي دائما أكبر من حبس الحنجرة واعتقال الصوت وشغب الذين يطلبون إذنا لتمنحنا رياحين الطرب المعتق بأصالتها وعبقرية فنها الذي يشنف الآذان ولا يستأذن أحدا أبدا.