لم أصدق ما سمعت عن روايات تتعلق بزواجات المسيار التي يعقدها الكثير من الشباب السعوديين القادمين إلى جاكرتا. وفي اليوم التالي لوصولي بدأت البحث عن عرسان المسيار، بدأت رحلتي ما بين جاكرتا العاصمة وبين الجبل الأخضر بونشاك، وجزيرة باندونج. وعندما دهمني الجوع دلني السائق على مطعم حضرموت، هناك تيقنت أنه ساحة لتجمعات العرب والسعوديين على وجه الخصوص. مررت من الجلسات المخصصة لزبائن المحل وفي كل جلسة أجد العجب، شباب في مقتبل العمر برفقتهم يافعات إندونيسيات، يتبادلون الطعام في الأفواه، أشبه بالعرسان! لكن المشهد تغير كثيرا، أربعيني سعودي تعلوه علامات الوقار، برفقته فتاة إندونيسية لا يزيد عمرها عن ال20 عاما، بدا أنهما عريسان جديدان، لكن اللافت للنظر أن الفتاة أو العروس متبرجة إلى حد لا يوصف، حتى لا يتناسب شكلها مع مرافقها السعودي الذي بدا سعيدا بهذا الاختلاف. معرض الفتيات خرجت من المطعم، متوجها إلى أحد المقاهي الشهيرة في وسط جاكرتا، في حين كانت الأمطار تخيم على العاصمة. اخترت طاولة بالقرب من ثلاثة شبان سعوديين، يرافقهم إندونيسي، فتولى السائق فوزي مهمة التنصت على الحديث، لينقل لي حرفيا ما حواه الحوار، وإن كان المشهد لا يحتاج إلى تنصت، إذ بادر الإندونيسي بعرض ما بحوزته من شرائح ورقية عليها صور فتيات، وبدا في العرض باحثا عن الطلب: «كل فتاة لها طلبات، ولها مزايا، والمهم الاستقرار حسب طلبهن»، في حين انشغل الشباب بعرض المآسي التي تعرضوا لها في ارتباطات سابقة، ونقل مخاوفهم من الوقوع في نفس الفخ. ويبدو أن الاتفاق كان جاهزا، إذ لم يستغرق الأمر دقائق معدودات، ليغادر الجمع المقهى إلى جهة ربما غير معلومة لي، لكنها ضمنا إلى حيث الاتفاق الأخير. لكن الحال لم يعجب فوزي الإندونيسي: «طبعا أرفض مثل هذا النوع من الزيجات، التي تجعل الإندونيسية مثل البضاعة لمن يملك الثمن، المفترض أن تتدخل الجهات المختصة لحسم هذا التلاعب، لأنه لا يعد زواجا، خاصة أن الطرفين لا يعرفان معنى الزواج والسعادة غير أنها متعة تزول في أيام وربما في ساعات، ولا أبرئ الفتيات الإندونيسيات من الانخراط في هذه الأمور، حيث سعيهن الحثيث في اختطاف السياح بجمالهن وإغرائهن بطريقتهن الخاصة، ولكن الحقيقة تقال؛ أنه ربما كان للفقر الشديد الذي تعيشه البلاد دور كبير في بيع البعض من العائلات فتياتهن لسياح بمبرر الزواج بهن، فالعديد من الفتيات يقمن بهذه الطريقة من أجل الحصول على مبلغ من المال يعشن عليه طيلة العام حتى يعود السياح مرة أخرى». الجبل الأخضر على بعد نحو 100 كيلو من جاكرتا العاصمة المكتظة بالسكان، توجهنا صوب الأرض المرتفعة بنشاك، أو كما يطلق عليه السياح بالجبل الأخضر، والمعروف بجماله وشلالاته المتعددة، كما يعرف أيضا بجمال فتياته، وقلما لا يجد الباحث عن زواج المسيار ضالته التي ينشدها في هذه المنطقة. استغرقت الرحلة إلى هناك ساعتين، فدلني فوزي على العجوز الذي يسكن أسفل الجبل، والذي عاش في السعودية، أكثر من 20 عاما، وعرف بخبرته في الأنكحة، بكل أنواعها: المسفار أو المسيار أو حتى بلا عنوان: «الجميع يخرج من مقر إقامته راضيا، دون مقدمات، والصيغة على ذمته، شرعية 100 %». شارع الحب خرجت إلى شارع يطلق عليه الإندونيسيون اسم شارع الحب «كيبادوامو» يتوسط منطقة تجارية مكتظة بالرواد، لكن الغريب أن الشارع مكتظ بالشباب السعوديين أيضا، والمعروفين بسحنتهم وسط أرتال الجنسيات العربية التي ترتاد الشارع، لكن العجيب أن القمصان الحمراء هي الغالبة على ملابس الكل، لتجد نفسك كأنك تغوص في ساحة حمراء. سألت عن الأمر فاتضح لي أنها علامة أفظع من الشيوعية، المهم أن غالبيتهم باحثون عن الزواج، وفي وقت وجيز لا يتعدى عشر دقائق أحصيت 21 شابا عربيا، يرتدون الفانلات الحمراء، لكنهم لا يبحثون بالطبع عن الزيجات، لأن أياديهم ترافق إندونيسيات. لكن المشهد المحير تلك الفتاة التي تتأبط ذراع أحد العرب الذي لم أستطع كشف ملامحه ما إذا كان عربيا أم سعوديا، لكن علامات الخروج عن القيم باتت ظاهرة، ليتبدل الأمر، ويصبح الخروج من شارع كيبادوامو بأقل الخسائر لا يقدر بثمن. ابتسامة المغادرة لم أبتعد كثيرا عن الشارع، وإذا بسيدة تقترب من السيارة، اعتقدت وقتها أنها من فقراء الحال، تحاول الحصول على مال، لكن ابتسامتها العريضة، جعلت الشك يتسرب داخلي، حاول السائق فوزي نهرها، لكنها بدأت في الحديث بلهجة محلية، أبلغني فوزي أنها تخبرني بأنني مرسل لها من السماء للزواج بابنتها الجميلة، وهي ترى أنني الأجدر للفوز بها، سألتها عن ابنتها، فأجابت عبر المترجم فوزي أنها تعمل في مطعم ليلي، عندها أدركت القصة، وآثرنا الابتعاد، مكتفيا بالتقاط صورة لها. فضيحة النكاح دلني فوزي على عم حمزة، ذلك المسن الذي يعد من أشهر باعة البخور ودهن العود، في إندونيسيا قاطبة، والذي يسكن في إحدى أودية الجبل، بدا لي منزله مختلفا عن المنازل الأخرى بتصميمه المسلح، استقبلنا عند باب المنزل، مرحبا بنا، فأدخلنا لمنزله الذي لا يختلف عن الطابع السعودي وبادر بإحضار مجموعة من أنواع البخور ودهن العود، لعرضها علي، لكنني قبل الشراء بادلته الحديث عن حياته قبل الاستقرار في بلاده: «عشت في السعودية قرابة 19 عاما، متنقلا بين الرياضوجدة والشرقية ومكة وشمال المملكة، وبعد أن اكتفيت بالغربة، وأتقنت الصنعة عدت لإندونيسيا، والحمد لله أمتلك حاليا مصنعا لصناعة البخور والعود، أصدرها لدول الخليج». وماذا تعرف عن الزيجات المسيارية؟ حاول الهروب من السؤال بابتسامة صفراء، رغم تكرار السؤال، لكن ملامحه تغيرت، وانفجر بالحديث بكل شفافية: «أنت ضيفي، وأتيت مع صديق عزيز، ولا أود الحديث عما يزعجك، وما دمت مصرا أصارحك، أنه كانت لدي علاقات وطيدة وقوية مع عدد من الخليجيين والسعوديين تحديدا، نظرا إلى السنين الطوال التي عشتها معهم هناك، وعندما عدت لإندونيسيا عملت في بادئ الأمر عاقدا للأنكحة بين أبناء جلدتي، وعندما أصبحت من المشهورين في هذا المجال امتدت مهنتي حتى أصبحت أزوج أصدقائي السعوديين عندما يأتون لإندونيسيا للسياحة، فكنت أستقبلهم في منزلي وأقوم بتزويجهم من فتيات يبحثن عن الستر، الذي لم يجدنه من أبناء جلدتهن، نظرا إلى تكلفة مراسم الزواج هنا، وفي الحقيقة أسعار الزواج في إندونيسيا، بالنسبة إلى السعوديين رخيصة جدا، وكأنهم يشترون مشروبا غازيا، ودمت على هذا الحال قرابة سنتين، حتى أصبح بعض الشباب يتصلون بي من السعودية لحجز الفتيات، وفي أحد الأيام اكتشفت أنني أقوم بإهانة وظلم الفتاة الإندونيسية لا سترها، والسبب يعود إلى واقعة حدثت العام الماضي، حيث حضر صديق وبرفقته مجموعة من الشباب عددهم سبعة أشخاص، فزوجت ثلاثة منهم، وسافرت على الفور إلى إحدى الدول الخليجية لإنجاز عمل يخصني، وعندما عدت في نهاية الصيف وجدت ما لم أكن أتوقعه، فزجاج منزلي وسيارتي مهشم، وبالتحقق من الأمر طلبوا مني مراجعة الشرطة، وهناك وجدت الحقيقة أن إحدى الفتيات رفعت ضدي شكوى تتهمني فيها بالمتاجرة بها مع سائح سعودي، وأنه قدمها له على أن ما يهمها المال، الأمر الذي جعلها تتعرض لأقسى أنواع التعذيب، وتكتشف أنه ضحية، فيما قام الشباب برمي الفتيات على قارعة الطريق، رغم أنهن من بنات أسر محترمة». لم أقصد كانت الحرقة والمرارة بادية على العم حمزة، متندما على صداقة جرت له العديد من الخسارة، وأولها صلته بأهله والأسر المحترمة في بلاده: «يظنون أنني أستغل بناتهم في الحرام، رغم أنني لا أقوم بهذا العمل إلا لمن أعرفهم شخصيا، وبالطبع لا أعرف مبتغاهم، نيتي ويعلم الله كانت سليمة ونظيفة من كل شر، وكنت أسعى لتحسين أوضاع العديد من الأسر الإندونيسية الفقيرة التي لا تستطيع في بعض الأيام توفير كسرة خبز يابسة يسدون بها جوعهم، لكنني لو علمت بهذه النهاية لما اقتحمتها، لذا فضلت مقاطعة جميع أصدقائي، وحولت النشاط للبخور والعود، ونجحت لأن نيتي كانت سليمة، وكما تقول تبت من الزواجات». غادرت منزل العم حمزة، وكلي أسف على ما سمعت، وما لم أسمع، وما رأيت وما لا أفضل رؤيته، وما صادفت وما لم أصادف، لكنني خرجت بحقيقة واحدة، وإن كانت في تساؤل: لماذا يهرب الشبان إلى إندونيسيا؟!