انقلاب شاعر كبير مثل أدونيس على حاضر قصيدة النثر، لا على تراثها بالضرورة، هو إعلان قطيعة بين الرواد والأنصار، ومحفز للفريقين للبحث عن مواطن الخلل في الإنتاج النثري الأخير، ومعالجة قصور التجربة عن تلبية المعايير التي وضعها المنظرون في مستقر أحلامهم. وربما يكون شعراء تفعيليون مثل إبراهيم الوافي وتمام تلاوي وعيد الحجيلي وسعد الياسري وغيرهم من أبناء جيلنا «حتى لا نستشهد بعظيم مثل درويش» أكثر وفاء لتلك المعايير من كثير من أبناء هذا المشروع الهجين، فالأزمة ليست في الشكل إذن، إنما هي في الموهبة التي لا يبدو أن كثيرا من النثريين مهتم بصقلها ما دامت نصوصه لا تتطلب جهدا! شعراء التفعيلة الشباب استطاعوا أن يكتبوا نصوصا تتوافق في الجوهر مع ما زعم الآباء المؤسسون لقصيدة النثر أنه لا يتحقق إلا بالتحرر من الوزن، وهناك نماذج كثيرة من التفعيلة تندرج في إطار «التفاصيل اليومية» التي سعى النثريون إلى تأصيلها بديلا عن شعرية «الرؤيا»، ونماذج أخرى اتكأت على بلاغة الصورة في تأسيس خطاب جمالي رائع، بينما تحولت النماذج النثرية في كثير من حالاتها إلى مسخ من الكلمات يوحي بأن كاتبها يعاني خللا نفسيا، وأن نصا واحدا يمكن استخدامه كدليل جنون في أي محكمة مدنية، إذ لم يعد فراق النثريين مسألة اصطلاح على تسمية، إذ لا بد أن نتفق أولا على أن كثيرا مما يُكتب اليوم باسم قصيدة النثر، كلام يقرأ لأي سبب غير التقيؤ! خلاصة القول أن قصيدة النثر في أفضل مستوياتها لم تبتكر جديدا تعجز التفعيلة عن مقارعته، وهنا تتهاوى دعوى أن الوزن يحد من انطلاق الشاعر، فالتخفف من أحمال التفعيلة بحجة ما سمي ب «الإيقاع الداخلي» كبديل لا موسيقي عن الإيقاع التفعيلي المموسق، لم يقدم لنا ما يستحق القراءة إلا في أمثلة محدودة قد نصطلح على إدراج بعضها في فن «القصة القصيرة جدا»، وهو جنس أدبي رفيع، لكنه في النهاية ليس شعرا، أو إدراجه في خانة «اللقطة» أو «الخاطرة»، وهذا مصطلح يستفز النثريين. وعلي -كي أكون منصفا- أن أشير إلى تجارب المبدعين من أبناء جيلنا الذين اختاروا الكتابة النثرية فأنقذوا بنصوصهم الجميلة سمعة قصيدة النثر، وخففوا من سرعة تدهورها على أيدي المنشقين عن الذوق والموهبة!