هل يمكن أن نعدم في لحظات معينة جماليات الحياة؟ وهل يمكن أن يقودنا هذا الانعدام، ولو في قمة كآبته وسوداويته، إلى إنكار معجزة الحياة وضرورة تضاداتها البنيوية؛ بما قد يقود إلى فكرة التخلص من الحياة، والرغبة الجامحة في قتل النفس؟ هذا هو السؤال الفلسفي الذي يتخذه فيلم «طعم الكرز» ثيمة رئيسية وحاملا لنسج حكايته الرمزية، وإقامة بناه السردية اعتمادا على ثنائية الحوار الفلسفي البسيط والعميق في الوقت نفسه، المحمل بالرمزيات والدلالات، وإيحائية الصورة وزواياها وفلسفتها البصرية لنقل نتاج تعبيري عن الواقع ومساراته في إيران. يبدأ هذا الفيلم الإيراني بمشهد للسيد «بادي» المثقف الهادئ الذي يقرر الانتحار بعدما تملكته حالة من اليأس، فيقود سيارته متوجها لمنطقة نائية على تخوم المدينة، ويخطط لتناول بعض الحبوب واستلقائه في قبر حفره في تلك المنطقة؛ لكنه سيواجه بعقبة هي أنه بحاجة لمن يدفنه! من هنا ينطلق الفيلم لرسم ملامح أجوائه الرمزية، وتصوير رحلة البحث عن هذا الشخص الذي ستكون مكافأته مقابل القيام بعملية الدفن أن يأخذ مال وسيارة السيد بادي بعد رحيله، ولكن قبل أن يهيل عليه التراب عليه أن يناديه باسمه عدة مرات تحسبا لاحتمال بقائه على قيد الحياة. هذا هو الطلب الذي سيقوده لمقابلة ثلاثة أشخاص، أولهم شاب في مقتبل العمر ترك التعليم وانضم للجيش بسبب فقر أسرته، لكن فكرة دفن السيد بادي تربكه وتفزعه فيرفض حتى مشاهدة القبر المعد، ويهرب بعيدا بأداء فني متقن من الممثل. يضطر بعد ذلك السيد بادي أن يبحث عن رجل آخر ليقوم بالمهمة، وهنا يلتقي بطالب أفغاني يدرس الشريعة في طهران، لكنه قدم إلى المدينة لزيارة صديق أفغاني له، وحين سيعرض بادي عليه الأمر لن يجزع لأنه عايش أهوال الحرب، بل سيحاول أن يثني بادي عن الفكرة بعد موعظة طويلة عن تحريم الانتحار وعقوبته الأخروية، فينصرف بادي عنه إلى عجوز تركي يائس يوافق على دفنه، فيتواعدان على اللقاء فجر اليوم التالي في مكان الدفن. وفي طريق العودة إلى المدينة، يدور بينهما حوار يستغله العجوز لشرح فكرته وفلسفته العميقة عن الحياة وجماليتها، وخصوصا قصة «شجرة الكرز» التي تسلقها ليربط على أغصانها حبلا يشنق به نفسه، ولكنه ما إن وصل إلى أعلاها حتى انتابته رغبة في تذوق ثمرة كرز، وهنا يعاود إحساسه بلذة الحياة وجماليتها. وينتهي الفيلم بعد ذلك نهاية مفتوحة لا نعلم من خلالها ما حدث للسيد بادي، وهو ما يترك للمشاهد تقدير ما إن كانت قوة الحوار وفلسفته مقنعة للعدول عن الانتحار أم لا. هذا الفيلم هو أول عمل إيراني يصل إلى العالمية منذ الثورة، إذ حصد جائزة السعفة الذهبية في مهرجان «كان» عام 1997، جاعلا من مخرجه عباس كيارستمي، عراب وضمير السينما الإيرانية الحديثة، واحدا من أعظم المخرجين على مستوى العالم بشهادة آباء السينما العالمية، لما يتفرد به من أسلوب مميز يجمع بين الواقعية السينمائية الجديدة، وتكنيك الأفلام الوثائقية، وابتكار في السرد البصري المفعم بالتأمل والشاعرية والحوارات المغرقة في الفلسفة، فهو كان فنانا تشكيليا قبل أن يتجه للإخراج، إضافة لكونه شاعرا له دواوينه المطبوعة مثل «المشي في الريح» و«ذئب متربص». وإن كانت الثيمة الرئيسية في «طعم الكرز» هي ثنائية الموت والحياة، ومحاولة استنطاق الطبيعة البشرية والعالم المحيط، لكن كيروستمي يحاول تقديم قراءة لأعماق المجتمع الإيراني وحالته الراهنة عبر الشخصيات الثلاث ووضعها الاجتماعي (الفقر– الشخصية الدينية– الحكمة والأصالة)، وهو يذهب بعيدا في رؤيته البصرية إلى مرحلة أبعد من حدود الصورة والبناء الدرامي (غير متشكل في الفيلم أصلا) باستخدامه الحوار وسيلة اتصال مكملة مع المشاهد، وعبر تحميل السرد إشارات فلسفية رمزية مكثفة وعميقة تفتح باب التأويل على مصراعيه، وتكاد تشكل في بعض أجزائها نثرات شعرية بانصهار ثنائية المسموع والمرئي: الكاميرا والقلم، وهو ما يبرر الغياب التام للموسيقى التصويرية في الفيلم، ويحيلنا بالتالي إلى عالم كيروستمي ورؤيته الفلسفية النهائية التي عبر عنها في ديوانه «ذئب متربص» بقوله: «من بوسعه أن يخمن طعم حبة كرز نصفها أصفر ونصفها أحمر؟» .