ربما كان تحت المجهر، غير أننا وضعناه تحت المقصلة، فترافع عن نفسه بطمأنينة واثقا من ذاته الروائية وقدراته الصحفية. ذلك هو الروائي محمد المزيني، يسجل حضوره الإبداعي عبر عدد من الأعمال الأدبية التي تشق الريح لتعلن ميلاده العفوي كروائي منسلخ من جلد الصحافة. أجاب عن الأسئلة الحارقة التي تضمنها هذا الحوار بكثير من الزهو والفخر، فيما حققه من أعمال روائية: منحتك الرواية اسما أكبر من الصحافة. لم أتعمد أن أضع نفسي في دوائر معينة لست راغبا فيها، وإن كنت ترين أن الرواية منحتني هذا الشيء الذي لا أتقصده، فهذا ربما يعود إلى الرواية ذاتها التي وجدت مكانها اللائق لدى القراء. لكن ألا توافقني على أنك صحفي متسرّد؟ لا يعيبني أني اشتغلت في الصحافة مدة من الزمن بحكم تخصصي الجامعي، فكبار الكتاب العالميين اشتغلوا في المجال الصحفي «ماركيز مثلا» ومنها انطلقت إبداعاتهم، ففي فضاء العمل الصحفي تتجلى معاناة الإنسان الحقيقية التي تؤسس للقضية الروائية. برؤية موضوعية غير نقدية لثلاثية ضرب الرمل، ربما لم تعتسف الشخصيات والأحداث ولكن اعتسفت محاكاة نجيب محفوظ.. أليس كذلك؟ نجيب محفوظ مدرسة أو بمعنى صحيح جامعة. إلا أنني اقتربت من محفوظ بالشكل الثلاثي لا المضمون، وقد توالت الثلاثيات عند غيري، فلم يكونوا معتسفين، كا ذكرت، لثلاثية نجيب محفوظ، وكانوا مختلفين عن روح سرده.. وأعتقد أنك لو قارنتِ ثلاثية محفوظ وثلاثيتي فلن تجدي أي ملامح قريبة الشبه بيني وبينه. فأنا قدمت في ثلاثية ضرب الرمل لمجتمع مختلف في عاداته وتقاليده، كما استخدمت لغة وتقنية سردية مختلفتين عن لغة وتقنية محفوظ. الروايات التي في خزانتك أحق بالحضور مما نشرته.. لماذا تخفيها إذن؟ أحضّر دائما بجدية لرواياتي ولا أستعجل كتابتها حتى تكتمل ملامحها، وحينها أنكبّ على ما توافر لي من مادة جديرة بالتدوين من دون الالتفات إلى صوت الرقيب الداخلي الذي لا أمنحه فرصة الحديث حتى أنتهي، فأسمعه على استرخاء ليكشف لي مكامن المجازفة في نصي ويقدم لي رؤيته بحجج وبراهين منطقية لا يدعني حتى أربطها جيدا وأضعها في أرفف خفية لا يطالها حتى الغبار. ولكن هذا لا يعني أنني أهملتها، فسيأتي يوم نشرها. هل تخاف المفارقة الإبداعية بين المنشور والمستور؟ لا، أبدا. لأني من خلال الإبداع لا أقدم نفسي ولا تعنيني المقولات المفخخة التي يحلو للبعض إطلاقها على المبدع. أو يحبذ المبدع إطلاقها على نفسه. ما يعنيني بدرجة أولى هو فحص المجتمع وتشخيصه من خلال نص إبداعي. لذلك أضع نفسي أمام هم المسؤولية فقط. أنت بالفعل أرهقت مخيلتك في الثلاثية وكل ما تحاول نفيه يثبت المنفي.. إلى أي مدى عبرت الأزمنة الثلاثة التي فرضت عليك ضرب الرمل؟ أردت لهذا النص أن يأتي بشكل طبيعي وكان دوري فيه هو البحث والتتبع. سمعت الكثير ودونت الكثير حتى اكتملت لدي الرؤية متوخيا تقديم مجتمعنا بصورته الطبيعية حتى لا أكون متجنيا. وهذا العمل يكتسب أهميته من داخله، إذ لم أكن بحاجة إلى إرهاق المخيلة في استنطاق شخصياتي أو اعتساف الأحداث أو إقحام رؤيتي الشخصية في النص. وهنا تكمن الصعوبة، ربما من جهتين: أولاهما إبداعي والثانية عملي، الإبداعي هو ما يفر منه كثير من الروائيين الذين لا يحبون الارتكاز على الواقعية المحضة لأنها ستجردهم من قدراتهم التكنيكية التي ربما تميزهم عن غيرهم.. أما العملي أو الإجرائي، فيتمثل في البحث والتقصي والرصد من خلال عدة جبهات، منها استعادة ما استقر في الذاكرة لدى كبار السن والتحري عبر ما كتب عن تلك المرحلة وما بعدها من مراحل.لذلك قلت: إنني سأكتب النص بشيء من المسؤولية. وكان همي الأول ألا تطوى أهم المراحل التي مر بها مجتمعنا وأن تنال الاعتبار اللائق بها، بحيث نبيت فقط مشغولين بما يستجد علينا من حياة تكون مادة طرية لنصوصنا الإبداعية. ما الذي يشعرك بتميز الثلاثية؟ هي عمل طويل ركز على تفاصيل المجتمع ومتغيراته عبر مراحل زمنية ثلاث، وإن كتب له التميز عن غيره فذلك بسبب طبيعية هذا النص، فالقارئ المحلي سيدخل عالما يتلمسه قريبا منه، ولربما عثر فيه على شخصية مشابهة له، أما القارئ الخارجي فسيكتشف صورة المجتمع السعودي بأبعاده السياسية والاقتصادية. كما أنني لم أكن متصلا مع شخصياتي بأنانية، ولم أكتبها من واقع تحريض داخلي، بل وضعت في حسباني حساسية المراحل والشخصيات التي أتعاطاها. حتى في لغة الرواية كنت حريصا على تقديم كل مرحلة أو جزء بما يليق به من لغة. فهي أيضا تتصاعد ووتتبدل وفق التطور الحادث في طبيعة المجتمع. طبعا هذا يعد ميزة خاصة لهذا النوع من الأعمال وهو ما سيكتب لها الديمومة والبقاء. ما الرؤية الروائية التي تمنح الروائي صورا بانورامية أكبر من أن يتوقف ويحتفي بعمل واحد من جملة أعمال؟ كلنا نسعى إلى إبداع متميز، لكن الشهرة أحيانا تحبسنا في إطار واحد لا نقدر على الفكاك، إلا أننا لو كتبنا نصوصنا بروح المجتمع ووعيه وثقافته وتخلينا عن أكذوبة فرادتنا وتميزنا لاستطعنا الهروب من ورطة البرواز السجن.. فالروائي الذي ينتظر أن تكال له المدائح ويمنح النجوم يكون متقلصا على ذاته حتى يسمع كلمة إطراء هنا وعبارة ثناء هناك ولو على سبيل المجاملة. وهذا واحد من الأسباب التي جعلت بعض الكتاب يصابون بداء الاحتباس الروائي ويكتفون بالعمل الواحد. كتابة القصة أو المقالة تختلف عن الرواية.. ما الذي يجعلك روائيا أكثر منك صحفيا أو قاصا؟ كتبت القصة في وقت مبكر ثم المقالة فلم يستهوني سوى الرواية. لأنها تفي بحجم ما أضمره في وعيي من هموم إنسانية تعز على القصة القصيرة أو المقالة كما أن المقالة بالذات التي تمتعني كتابتها أيضا ذات إطار موضوعي وزمني ومكاني محدد، قد لا يبقى أثرها وإن كان بالغا سوى برهة من الزمن، كما أنها لا تحتفظ بالكاتب ولا تحميه. فمتى كان المقال ساخنا فسيصبح تهمة أولعنة ستلاحقه إن طال الزمن أو قصر من جهة أخرى. وأرى أن المقالة التي لا تحرك ساكنا فهي بمثابة بقعة حبر تلوث صفحات الجرائد وما أكثرها. لهذا وجدت في النص السردي الطويل ملاذي ووسيلتي التعبيرية الأمثل. ما الفسيفساء الاجتماعية التي تمنح الروائي بشارات الميلاد بعيدا عن العلاقات الحرام بين الأنثى والذكر على نحو السائد من الاتكاءات البلهاء في غالب المشهد الروائي؟ عندما نكتب نصوصنا بشيء من الاحترافية لن نحتاج إلى الاتكاء على التابو كوسيلة للتشهير والاشتهار، وفي النهاية التسويق. فالمجتمع دائما مسكون بقضايا كثيرة جدا. فلو اشتغلنا على شخصيات استثنائية من خلال البحث عنها بالغوص في عمق مجتمعنا واستظهرناها في نصوصنا بشيء من الوعي والمسؤولية لأغنتنا كثيرا عن التشبث بقشور الظواهر أو الإيغال في توصيف المجون دون هدف يذكر إلا أن يكون له أهمية خاصة داخل النص كأن يكشف بعدا إنسانيا لا مناص منه. أما أن تبدأ الرواية بعلاقات محرمة داخل كبينة أو وكر أو قمرة سيارة، دونما الحاجة إلى ذلك، فهذا من وجهة نظري تجاوز مكشوف لا مبرر .