الحديث عن إساءة الإسلام في الجزء الثاني من فيلم «الجنس والمدينة» لم يدهشني أبدا، سيدهشني حقيقة أن أرى سمانثا جونز تتمشى في أي مدينة خليجية دون أن تتذمر مما تعتبره تخلفا ورجعية، فجونز «التي تلعب دورها الممثلة كيم كاترال» شخصية تتبنى آراء مثيرة للجدل وتوجهات لم تسلم من الانتقاد في المجتمع الأمريكي نفسه. «الجنس والمدينة» مسلسل بدأ إنتاجه في العام 1998 واستمر حتى العام 2004، ثم تحول إلى فيلم بالعنوان نفسه أنتج الجزء الأول منه عام 2008 ثم الجزء الثاني هذا العام، والذي كان من المقرر تصوير معظم أجزائه في أبوظبي لولا أن السلطات الإماراتية رفضت منح المنتجين التصاريح اللازمة للتصوير في الإمارات، فاتجه طاقم العمل إلى المغرب وتم تصوير الفيلم تحت إجراءات أمنية مشددة، والمسلسل والفيلم يحكيان قصة أربع فتيات أمريكيات مع مغامراتهن الجنسية في مدينة نيويورك، ويمكن القول ان محور هذه القصص أو صوتها الروائي يتمركز حول ما تسرده كاري براد شو «سارا باركر» في عمودها الأسبوعي في إحدى الصحف النيويوركية وحديثها عما تراه غريبا في علاقة الشبان بالفتيات، والإحباط الذي تلاقيه النساء في بحثهن عن الحب والمتعة الحسية، وكل هذه القصص مبنية على ما تعيشه وتراه وتسمعه كاري من صديقاتها اللاتي يجتمعن بشكل دوري لتبادل المغامرات وطلب النصيحة، ومع أن هناك اختلافات كبيرة في وجهات النظر بين هؤلاء الفتيات، فإنهن يجتمعن على حقيقة واحدة وهي التفاهم المتبادل ومحاولة دعم ما يعتبرنه رحلة الوصول إلى الرجل المثالي، ويلاحظ أيضا أن سمانثا جونز «كيم كاترال» هي الأكثر جموحا بين هؤلاء النسوة، فيما تعتبر شارلوت يورك «كريستن ديفز» أكثرهن تحفظا واتزانا، وتمثّل ميراندا هوبز« سينثيا نيكسون» في المقابل المرأة العاملة في وسط من المحامين الرجال الذين يشككون في قدرة المرأة على الاستقلال والنجاح. ويلاحظ أيضا التحول في سلوك هذه الشخصيات ما عدا سمانثا جونز التي استطاعت المحافظة على شخصيتها القوية والمتعطشة للذة على الرغم من تقدمها في السن، ومن هنا يمكننا فهم الحالة النفسية التي لاقتها سمانثا عندما تغادر نيويورك إلى أبو ظبي بطلب من رجل أعمال خليجي للترويج لأحد مشاريعه التجارية، وهناك يتجلى الصدام الحضاري والديني المتوقع الذي تظهر صورته الحادة في تعليقات يمكن وصفها بمعاداة الإسلام أو الفهم القاصر لمعاني العفة والتحفظ الديني. في بداية الأمر تقنع سمانثا صديقاتها الأخريات المتزوجات بضرورة مرافقتها إلى أبوظبي حيث «الشرق الأوسط الجديد» والوعود بالرفاهية والخروج من ضغوطات الزواج والرتابة، لكن حالما تصل سمانثا إلى أرض المطار تبدأ حقيقة الاختلاف الثقافي، فالسلطات تصادر حقائبها لاحتوائها على هرمونات تساعدها في الحفاظ على ملامحها الشابة، وبعد أن تتذمر سمانثا من تخلف المسؤولين وعدم قدرتهم على التفرقة بين الهرمونات والمخدرات، تمضي في طريقها إلى الفندق الفاخر الذي ينتظرها وصديقاتها بصحبة رجل الأعمال الخليجي الذي يبالغ في الاحتفاء بهن. والمواجهة الحقيقية في هذا السياق تأتي نتيجة لإصرار سمانثا جونز على الخروج مع صديقها الأوروبي الذي التقته للتو، والتصرف بشكل غير لائق في أحد مطاعم أبوظبي، ما دفع أحد مرتادي المطعم الخليجي إلى الاتصال بالشرطة لإيقاف ما يعتبره إساءة وخرقا لقوانين البلد، فيقتاد الأمن سمانثا ويحتجزها طيلة الليل. ونتيجة لهذه الحادثة، يتخلى الشيخ عن ضيافته لهن، فيضطررن إلى المغادرة الفورية من الفندق لعدم قدرتهن على الإيفاء بتكاليف الضيافة، وأثناء خروجهن تعود كاري برادشو إلى السوق لتتفقد جواز سفرها الضائع وهناك تحدث المواجهة بين سمانثا جونز ومجموعة من المصلين الخارجين من المسجد، إذ يطلبون منها الاحتشام فتسخر منهم، ما يدفعهم إلى طردها من السوق وملاحقتها. وهنا تقوم بعض النسوة الإماراتيات بإيوائهن ومساعدتهن على الخروج بارتداء العباءة والبرقع، وهي محاولة لتصوير النساء الخليجيات على أنهن مهتمات بالموضة والجمال لولا أنهن مضطهدات من قبل المجتمع الذكوري الذي يرغمهن على ارتداء البرقع.. وهذا أيضا جزء من محاولة الفيلم تصوير الهوية الخليجية على أنها تدعي التقدم لكنها تفشل في مجاراة التحرر والمساواة. وخلاصة القول أن سمانثا جونز اتخذت معايير غربية للحكم على مجتمع مختلف، بينما أدى انحسار دور كاري برادشو المتزنة والحكيمة إلى تأجيج الصدام الحضاري وتحويل الفيلم إلى مشروع استفزازي حاد لمشاعر المسلمين. والحقيقة أن فلسفة «الجنس والمدينة» لا يمكن عزوها إلى الحركة النسوية الغربية؛ لأن الفيلم تجاوز الإطار الفكري التقليدي إلى ما بات يعرف بفكر «ما بعد النسوية» الذي تخطى مرحلة السعي إلى استقلالية المرأة وأضحى همه ضرورة رجوع المرأة إلى نفسها في تحديد واكتشاف الهوية «أو الهويات» المتناقضة أو المتعددة فيها، مع محاولة الهروب من ثنائية التصنيف وإشكالية الآخر .