كأي شاب في بداية حياته العملية، فكرت وتدبرت وتأملت حولي وأنا أبحث عن وظيفة بأي دخل كان «محدود» أو «مخدود» من التواضع بحيث يكاد يكفيني لشراء الدخان.. عمليا لا وظيفة وأنا في بدايتي تكفيني للإيفاء بكل متطلباتي، لذلك فكرت أن أكون أشطر من غيري و«أجي» على نفسي في كثير من الضروريات فالكماليات ملحوق عليها إذا أعطانا الله العمر. أول هم حذفته بممحاة من تفكيري أن أتجاوز الرهق البيروقراطي في مطالبتي بالخبرة لأي وظيفة أتقدم إليها، لأن التفكير سيكون تحصيل حاصل، فالشركات في القطاعين العام والخاص تعلم علم اليقين أنه لا حيلة لأمثالي في هذه الخبرة الطاردة، وهي عملية مساومة مكشوفة للقبول بأي راتب طالما تنقصني هذه الخبرة، وبدلا من أن تحول إلى خميرة عكننة، كان لا بد من التسليم بأنها كرت الضغط الذي لا بد من امتصاص صدمته. في نحو أربع أو خمس شركات سلّمت طائعا مختارا بنقصان خبرتي، ومع ذلك لم أحصل على تلك الوظيفة، ولكن حالفني الحظ في شركة جديدة لديها نهم ورغبة في تغطية نسبة السعودة، فقبلت بي وقبلت بها، وهكذا بدأت أول يوم عمل في حياتي في تلك الشركة، وحاولت منذ البداية أن أبدو راغبا وجادا في القيام بمسؤولياتي، ولا مانع إن احتاج الأمر إلى قليل من النفاق والوصولية، فأنا باحث عن الأفضل وذلك لن يتحقق ما لم يتم دعمه بقليل من لوجستية السلوك العملي، كأن أتقبّل الشحططة والمرمطة والنفخة. نجحت نسبيا في تحقيق وفاق مع مديري في العمل، وقد كان يحب أن يرضي غروره موظف في أول حياته العملية يمارس نوعا من التزلف والتودد ليحظى برضا مديره وينفحه عاجلا أم آجلا بترقية أو زيادة راتب، وعلى ذكر الراتب فقد تخلصت من بعض أوجه الصرف غير الضرورية لصالح أشياء أخرى، مثلا أقلعت عن التدخين لأوفر مصروفه لشراء بعض أدوات الزينة والكشخة التي تجعلني موظفا أنيقا ومحترما، أو بصورة أكثر دقة موظفا على حساب بعض ضرورياتي، ولا شك أنني عانيت كثيرا بسبب ذلك، ولكن معاناتي الحقيقية كانت في حرص معالي المدير على إظهار كل معاني الخضوع وممارسة أكبر قدر من النفاق الاجتماعي والإداري حتى لو كانت بعض سياساته وقراراته خاطئة من وجهة نظري المتواضعة ووجهة نظر بقية المرؤوسين أصحاب الخبرات. بصراحة لم أطق العمل في تلك الشركة، ولكن مكره أخاك لا بطل، إذ يبدو أن حاجة كثير من المديرين لأن يبدو أحدهم بمظهر الناهي والآمر أكبر من قدرته على التعامل بطيب خاطر وعفوية، ولذلك وجدت نفسي مضطرا لمواصلة عملي على الأقل لاكتساب الخبرة التي تطلبها أي جهة أخرى قد أتوجه إليها مستقبلا، وكما يقول المثل «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة»، أنا قابض على جمر الوظيفة حتى يأذن الله بفرج قريب من عنده، فألف وخمس مئة ريال ليست راتبا بقدر ما أنها إكرامية للحصول على وظيفة أكبر تتوفر لي فيها بعض الخبرة المطلوبة مستقبلا، فمكسبي الحقيقي هو معرفة مزاج المدير وشخصيته، صدقوني تلك أكبر خبرة يمكن أن يحصل عليها مبتدئ مثلنا، وبعدها يأتي الراتب يزيد أو ينقص بحسب ذلك المزاج.