بحلول يوم الأحد تتجدد ذكرى الحرب الهمجية التي شنتها إسرائيل على غزة قبل عام، تلك الحرب التي أدانتها أكثر دول العالم لبشاعتها وعدم تكافؤ القوى بين الطرفين. فالجيش الإسرائيلي مدجج بأحدث الأسلحة التي صبت نيرانها على شعب غزة الأعزل موقعة أكثر من 1400 شهيد و5450 جريحاً فضلاً عن المعتقلين. ولم تذهب إدانات دول العالم لتلك الحرب سدى فقد عين رتشاد غولدستون المدعي العام السابق بالمحاكم الدولية ليوغسلافيا ورواندا في إبريل الماضي ليرأس لجنة تقصي الحقائق التابعة للامم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في قطاع غزة وإسرائيل. إلا أن إسرائيل رفضت التعاون مع تحقيقات غولدستون ومنعت اللجنة من دخول تل ابيب بحجة أن هناك انحيازاً ضدها وهو ما نفاه غولدستون (اليهودي) فاضطرت اللجنة لدخول غزة عبر مصر وأجرت مقابلات مع فلسطينيين وجلسات علنية في جنيف بعد ذلك مع إسرائيليين تضرروا من تلك الحرب. وجاء في التقرير، الذي أدان إسرائيل بشكل صريح، أن إسرائيل لم تتخذ الاحتياطات اللازمة المنصوص عليها في القانون الدولي للحد من الخسائر في الأرواح وفي الإصابات التي تطال المدنيين والخسائر المادية. وأرجع التقرير سبب إدانته لإسرائيل باعتبارها استخدمت القوة بشكل غير متكافيء أثناء الهجوم على غزة وأنها ارتكبت جرائم حرب وربما جرائم ضد الانسانية وأنها خرقت القانون الدولي الإنساني بقصفها المتعمد لمستشفى القدس ومستشفى الوفاء ومنشآت لوكالة الاونروا. ومن المقرر أن يقدم غولدستون رئيس بعثة مجلس حقوق الإنسان التابع للامم المتحدة تقريره بخصوص تلك الحرب والمكون من 300 صفحة بشكل رسمي إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف في نهاية الشهر الجاري أي بعد عدة أيام. وتأمل لجنة غولدستون بعد اعتماد التقرير أن يحيلة بان كي مون الأمين العام للامم المحدة إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ الإجراءات اللازمة والتي يمكن أن تكون الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية. وكان مجلس حقوق الإنسان التابع للامم المتحد قد اعتمد قراراً يوافق على تقرير غولدستون بعد أن صوتت 25 دولة لصالح اعتماده وعارضته 6 دول وامتنعت 11 دولة عن التصويت وبالتالي تم اعتماده يوم السادس عشر من اكتوبر الماضي في جلسة استثنائية بطلب من السلطة الفلسطينية وبدعم من المجموعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ودول عدم الانحياز والدول الأفريقية التي تشكل غالبية في المجلس. وتشعر إسرائيل بالقلق حيال تمرير تقرير غولدستون في مجلس الأمن مما سيوفر الاسس القانونية لملاحقة الضباط والقادة الإسرائيليين. ولم تذهب بعيداً في مخاوفها فقد أصدرت محكمة بريطانية قبل أيام مذكرة اعتقال بحق تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما (أهم أحزاب المعارضة) بناء على طلب منظمة مؤيدة للفلسطينيين بتهم جرائم حرب بصفتها المسئولة عن اجتياح إسرائيل لغزة قبل عام. وكانت ليفني التي شغلت منصب وزيرة خارجية إسرائيل إبان الحرب على غزة التى اطلقت اسرائيل عليها عملية (الرصاص المصبوب) تنوي زيارة بريطانيا مما دفعها لالغاء الزيارة حيث برر مكتبها ذلك الإلغاء بوجود مشاكل في جدول الزيارة. وعقبت ليفني على تلك المذكرة بالقول إن الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة أوائل العام الحالي حققت أهدافها من خلال تعزيز عامل الردع وأنها لو اضطرت مجدداً إلى اتخاذ القرار بالقيام بهذه العملية لكانت قد اتخذت القرار نفسه. ولم يقتصر الأمر على ليفني فقط بل إن موشي يعلون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي كان مقرراً له زيارة بريطانيا لكنه عدل عن الزيارة لأنه يلاحق بتهمة ارتكاب جريمة حرب حيث كان رئيس أركان الجيش بين عامي 2002 إلى 2005 ولم تطأ قدمه أرض لندن منذ ذلك الوقت كما توجد ضده دعوى قضائية في الولاياتالمتحدة وفي إسبانيا. وتقوم إسرائيل بمساع حثيثة لوقف ملاحقة قادتها قضائياً في كثير من الدول بحملة علاقات عامة دولية لتحسين وجهها بعد تقرير غولدستون. وتنقسم أسباب العدوان الإسرائيلي على غزة (من وجهة نظر إسرائيل) إلى قسمين أحدهما معلن والآخر غير معلن. أما القسم المعلن وهو الذي بررت به إسرائيل عدوانها فيتكون من ثلاث نقاط: أولها إنهاء سيطرة حماس على قطاع غزة. والثاني وقف إطلاق صواريخ القسام على التجمعات السكنية اليهودية في جنوب إسرائيل. والثالث هو العودة إلى التهدئة ضمن شروط جديدة. ثم ما لبثت إسرائيل أن تراجعت مع بداية الهجوم البري وحصرت أهدفها في إنهاء إطلاق الصواريخ على جنوبها والعودة للتهدئة. وفيما يتعلق بالقسم غير المعلن فيتكون من نقطتين: أولهما تأزيم الوضع الإنساني في القطاع بدفعه لنقطة اللاعودة. وثانيهما تعميق الخلاف الفلسطيني الداخلي وإذكاء ناره ليصل لدرجة الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية لتتمكن إسرائيل من تنفيذ ساستها التوسعية. ومن الضرورى الإشارة إلى أن قطاع غزة كان قبل هذه الحرب غير المتكافئة خاضعاً لحرب خفية لاتستخدم فيها الأسلحة وهي الحصار والتجويع والذي بدأ قبل هذه الحرب بعام ونصف وتحديداً في يونيو 2007. وقد نتج عن هذه الحرب حرمان المواطن الفلسطيني العادي من أبسط حقوقه في الحصول على الغذاء والدواء والوقود حيث يعتبر هذا إرهاب دولة وجرائم حرب تتنافى مع مبادئ القانون الدولي واتفاقيات جنيف الرابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال ومعاهدات حقوق الإنسان مما فاقم من حالة الفقر وجعل 80 بالمئة من السكان يعتمدون على المساعدات الدولية. ولم تكتف إسرائيل بشنها تلك الحرب البربرية بل تعمدت زيادة معاناة الفلسطينيين من سكان غزة البالغ عددهم مليوناً وخمسمئة ألف مواطن وذلك بمنع إصلاح ما دمرته الحرب من بنى تحتية ومنازل ومزارع بطريقة غير مباشرة بمنع دخول المواد الضرورية للإصلاح مثل الاسمنت والزجاج إلا بنسبة بسيطة جداً. وأحدثت تلك الحرب ردود أفعال غاضبة على الصعيدين العربي والعالمي ..فعلى الصعيد العربي دعت دولة قطر ممثلة في حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى إلى عقد قمة عربية طارئة تخصص لمناقشة العدوان الإسرائيلي على غزة خاصة مع تزايد أعداد الشهداء والجرحى يوماً بعد يوم. وقد عقدت القمة يوم الجمعة السادس عشر من يناير 2009 أي بعد مضي عشرين يوماً على بدء الحرب حيث افتتح حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى أعمال تلك القمة مساء ذلك اليوم بفندق شيراتون الدوحة وترأس وفد دولة قطر في القمة سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ولي العهد بمشاركة أربع عشرة دولة إضافة إلى السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والسيد رمضان شلح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي والسيد أحمد جبريل الأمين العام للجبهة الشعبية. واختتمت القمة في اليوم نفسه بإصدار بيان يدين إسرائيل بشدة لعدوانها الوحشي على قطاع غزة ويطالبها بالوقف الفوري لجميع أشكال العدوان والانسحاب الفوري غير المشروط والشامل لقوات الاحتلال وتحميل إسرائيل المسئولية الجنائية الدولية بموجب القانون الدولي عن ارتكاب العدوان وجرائم الحرب وإبادة الجنس البشري والمسؤولية المدنية بدفع التعويضات والسعي لملاحقة إسرائيل قضائياً والتأكيد على الفتح الفوري لكافة المعابر للأفراد والمساعدات الإنسانية بما في ذلك الغذاء والوقود والعلاج الطبي وتوزيعها دون عراقيل. وشدد البيان على ضرورة رفع الحصار غير المشروط عن غزة ودعوة جميع الدول لتقديم مواد الإغاثة الإنسانية العاجلة لسكان القطاع ودعم وحماية منظمات الإغاثة الدولية والإنسانية ودعوة الدول العربية والدول المحبة للسلام لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتشكيل جسر جوي لنقل مواد الإغاثة إلى القطاع وإنشاء صندوق لإعادة إعماره. ودعا الأطراف الفلسطينية للتوافق وتحقيق المصالحة. ودعوة الدول العربية لتعليق مبادرة السلام التي اقرت في القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002 ووقف كافة أشكال التطبيع بما فيها إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والإشادة بالدول التي اتخذت مواقف إيجابية لمناهضة العدوان على غزة ودعم القضية الفلسطينية. أما على الصعيد العالمي فقد احتشدت جموع المتظاهرين في دول كثيرة من العالم زادت في بعض العواصم عن مئة ألف شخص تعبيراً عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني ومطالبين بوقف الحرب التي كانت أعداد ضحاياها من القتلى والجرحى تتزايد باستمرار بعد أن رفعت تلك الجموع دمية صغيرة لفت بكفن أبيض رمزاً للأطفال الذين قتلوا في غزة مرددين هتافات منددة بإسرائيل وملوحين بأعلام فلسطينية. وقد عارض الحرب وطالب بوقفها اليهود أنفسهم حيث وجه عدد من الشخصيات اليهودية البريطانية البارزة خطاباً مفتوحاً نشرته صحيفة الاوبزيرفر البريطانية يدعون فيه إسرائيل لوقف الهجوم على غزة، محذرين من أنه سيؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن مئات من المتظاهرين الإسرائيليين احتشدوا في تل ابيب مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار ووضع حد للهجوم العنيف الذي يشنه الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة ورفعوا لافتات كتب عليها (نعم للسلام ولا حل عسكرياً للنزاع) خاصة مع ما كانت تظهره وسائل الإعلام من صور بشعة للشهداء الذين كانوا يستخرجون من تحت أنقاض المنازل وبالذات الأطفال منهم والنساء. وكانت إسرائيل قد هاجمت في السابع والعشرين من شهر ديسمبر الماضي غزة بخمسين طائرة من طراز (إف 16) مبتدئة عملية (الرصاص المصبوب) قاصفة أهدافاً معنية وبعد نصف ساعة حلقت ستون طائرة من بينها طائرات الأباتشي وقصفت ستين هدفاً بالإضافة إلى منصات صواريخ القسام داخل الملاجيء المحصنة بالقذائف المزودة بأجهزة توقيت. كما استهدفت الطائرات مجمعات حماس الأمنية والتدريبية بالإضافة إلى المستودعات بعد أن ألقت أكثر من مئة طن من القنابل في هجوم يعتبر الأعنف من عام 1967. واستمر الهجوم الجوي سبعة أيام وفي اليوم الثامن في الساعة التاسعة ليلاً بدأ الجيش الإسرائيلي هجومه البري بأعداد كبيرة من الجنود والدبابات على قطاع غزة بمشاركة قوات من أسلحة المشاة والمدفعية والهندسة ووحدات خاصة حيث أغرقت تلك القوات القطاع بالصواريخ والقذائف مرتكبةً مجازر بشعة. كما استدعى الجيش آلافاً من جنود الاحتياط للمشاركة في العملية معلناً أن الغزو سيستمر أياماً أخرى. وفي اليوم الثالث عشر وبعد تفاقم الوضع لدرجة لايمكن السكوت عليها تحرك المجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن واتخذ قراره رقم 1860 الذى تضمن عدة توصيات منها الوقف الفوري لإطلاق النار ثم الانسحاب التام للقوات الإسرائيلية من غزة وتكثيف الجهود لإيجاد ترتيبات وضمانات في غزة بغرض تحقيق وقف دائم لاطلاق النار وحظر تهريب الأسلحة وفتح دائم للمعابر وضرورة تنظيم مرور المواد الغذائية بشكل دائم إلى السكان من خلال معابر غزة. وأدان القرار أعمال العنف الموجهة ضد المدنيين وعبر عن قلقه لتصاعد تلك الأعمال وتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة ودعا إلى عدم إعاقة وصول المساعدات الإنسانية إليها وحث على تقديم المساعدات الإنسانية وإعادة بناء اقتصادها ورحب بالمبادرة المصرية لترتيب وتطبيق وقف إطلاق النار وكذلك المساعي الدولية الاخرى التي تبذل في هذا الصدد، داعياً إلى بذل جهود فورية للتوصل إلى سلام شامل بين إسرائيل والفلسطنيين. وبعد اثنين وعشرين يوماً أنهت إسرائيل هجومها الوحشي الذي أسفر عن استشهاد 1400 وجرح 5450 واعتقال 250 فلسطينيا وهدم حوالي 15 بالمئة من بيوت القطاع ..وقدر جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني الخسائر الاقتصادية المباشرة نتيجة العدوان بحوالي 1900 مليون دولار.