في اليوم العالمي للغة العربية ، الذي وافق أمس ، تبدو الأسئلة عن حضور العربية في العالم المعاصر أسئلة عن مقدار مساهمة المجتمعات العربية في إنتاج المعرفة والثقافة والعلم والتقنية والصناعة ، ولعبها دوراً مؤثراً اقتصادياً وسياسياً. وهي -على كل حال- تساهم في ذلك بجهد المُقل ، ولكن هذا الإسهام قد يبدو معزِّزاً للغات الأجنبية ، خصوصاً الإنجليزية في المشرق العربي ، والفرنسية في المغرب ، أكثر من كونه معززاً للعربية. فالشركات والوكالات والمصانع والمؤسسات التجارية والحكومية تحتاج إلى موظفين وعمال ملمِّين بلغة أجنبية أو تفضلهم على غيرهم. والعلم في مجالاته النظرية والعملية لا يقوم على أساس صلبٍ إن لم يستند إلى مراجع بلغات أجنبية ، أو يكتب -خصوصاً في العلوم الطبيعية والبحتة وما إليها- بلغات أجنبية. هذا الوضع للعربية هو وضع كثيرٍ من لغات العالم مع الإنجليزية في الدرجة الأولى. فهي وسيلة للحصول على وظيفة جيدة ، وهي لغة للسياحة والسفر والصناعة والعلم والاتصال والصناعة. ولم تواجه لغتنا العربية تاريخاً يبجِّل لغة أخرى غيرها طوال ما يزيد عن 1500 عام مثلما تواجه ذلك الآن ، وهي فقيرة من المتون والمصطلحات والمفاهيم والنظريات الحديثة ، وفقيرة في القدرة على التفهم والتفاهم مع الصناعة والميكنة والتقنيات والتجارة إلا بما يتيحه التعريب والترجمة ، وما يتيحانه يبقى في منطقة خصوص مفاهيمي ضيِّق النطاق ، وأحياناً مضطرباً وعصياً ومستغلقاً! وقد لا تتفق أفهامنا ، الآن ، في تصور العربية التي نتحدث عنها : هل هي العربية التي يدرِّسها معلمو النحو بأكثر صورهم نمطية وعموماً؟! هل هي اللغة المحفوظة من نمط معيَّن من الكتب القديمة ، والمنغلقة عليها دون أي مرونة حتى تلك التي لم تخل العربية منها في الدلالة على العصور والأمكنة والطبقات الاجتماعية وأفراد المؤلفين والشعراء..؟! أم هي اللغة العملية التي ينطقها أستاذ النحو نفسه حين يخرج من قاعة الدراسة؟! هل نعني بالعربية لغة نظرية موجودة في الأذهان أكثر منها في الواقع ، أم نعني لغة واقعية تحمل حرارة الواقع الحي وضعفه وانعدام تهذيبه أحياناً؟! إن الإجابة -بالقطع- ستذهب إلى اللغة الفصحى فيما نعرفها على ألسنة معلمي النحو. ودليل ذلك أن الاحتفال باليوم العالمي للعربية لا يُعنى به سنوياً في عالمنا العربي إلا أقسام العربية في الجامعات والمدارس والمؤسسات الرسمية المعنية بها كالمجامع والمعاهد والمراكز الخاصة. ومع الأسف فإن هذه المؤسسات التعليمية والعلمية تبدو في عالمنا العربي منفصلة عن واقع اللغة المحكية والعملية ، ومفروضة عليها فرضاً. وهذا يعني أن لغتنا العربية تبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى شيوع العامية وخفتها وحيويتها ، وإلى نظامية الفصحى ورصانتها وعمقها في وقت معاً. وذلك لن يكون إلا بعامية مفصَّحة وفصحى معمَّمة ، وهي معادلة لا بد أن يشبه الوصول إليها في أذهان المعنيين بالعربية لغزاً مستعصياً! إن مشكلة العربية اليوم ليست في خارج الثقافة العربية والمجتمعات العربية ، بل هي في داخلها. فالعامية المتفشية -على الرغم من التبجيل الرسمي للفصحى- موضع حفاوة في قنوات فضائية ودراما مسرحية وتليفزيونية ومجلات وصحف ومسابقات. والتأليف بالفصحى أو الترجمة إليها لا يصلان سنوياً في مجموع العالم العربي إلى الأرقام الإحصائية المسجلة للتأليف والترجمة في دولة مثل إسبانيا!