أفرزت حالة الربيع العربي -في بلاده- تغيير مواقع الحكم ، بطريقة ديمقراطية لا مثيل لها ، بعد أن كانت نفس مناطق التغيير موضع التندر على نتائج الانتخابات المزورة ، ومدى الكارثية في الشعوب المقهورة التي دُجِّنت للرضا بذلك عمليًا!. وفي دورة الحياة الجديدة وسرعة إيقاعها وجدت الجهات المختلفة المهتمة بالشأن السياسي العربي ، ما كان منها دوليًا أو عربيًا ، حكوميًا أو خاصًا ، أن زمام أمور الحكم بيد الإسلاميين تسارعت بشكل مذهل ، وتغيرت معها قواعد اللعبة. على المستوى الداخلي لهذه الدول تصدَّر الانفتاح المشهد في أكثر الأشياء كما هي الحالة في تونس ، كونها الأول ثورة ، والأول اختيارًا للحكم الديمقراطي الجديد. لفت هذا المشهد نظري في زيارتي الأخيرة لها ، ولغة المتحدثين فيها. تغير مفاجئ وسريع أطل على كل ساحات الحياة تقريبًا في تونس بجانبيه الإيجابي والسلبي نسبيًا ، برغم خطورة السلبي في انفتاحه. والحال بات قريبًا في مصر ، إلا أن مصر العروبة والإسلام والأزهر ، كانت أكثر وضوحًا في نوعية تغيراتها ، والضغط لتوجيه هذا التغير نحو شمولية الإيجابي ، رغم الفرق الكبير بين توغل الرسمي (الفلول) في النظام التونسي والذي عُدَّ نادرًا ، مقابل (الفلول) المصري ، الذي توغل في كل مناحي الحياة ، وبات البعض منه يلفظ أنفاسه مؤخرًا!. لا شك أن المشهد المصري يتسارع بقوة ، ويتبنى المغيرون له سياسة النظام والقانون ، مما يدل على حالة وعي ، وتغيير ديمقراطي حقيقي. ومصر اليوم تكاد تغلق أهم وأخطر وأكبر ملف في عملية الانتخابات الرئاسية. وبعيدًا عن نوعية الرئيس المختار ، والتي تؤكد التقارير الغربية والعربية قربه من التيار الإسلامي إن لم يكن منهم ، فإن ما يعنينا في هذه الصورة السياسية ما آل إليه الأمر من حكم التيار الإسلامي بالأغلبية في ذاته ، أو باشتراكه كتيار عريض مع تيارات أخرى ، ومشاركته الرئيسية والفاعلة في الحكم والقرار السياسي. أي أن الكرسي هذه المرة للإسلاميين والطاولة لليبراليين ، وهذا عكس عنوان مقالتي التي نشرتها قبل سنتين هنا بعنوان: (الكرسي لليبراليين والطاولة للإسلاميين). لكن الحقيقة أن الكرسي أكثر خطورة كونه الأسرع دورانًا وهيجانًا!. وما يجب التأكيد عليه أن هذا الكرسي لم يُصنع للإسلاميين خصيصًا ، ليستبدوا به طيلة حكمهم. كما لم يقفزوا عليه بالانقلاب والثورة المسلحة ، بل هو اختيار تكليفي لا تشريفي كما في فلسفة الدعوة والفكر الإسلامي. واختيار الإسلاميين للحكم ، هو اختيار أغلبية الشعب الذي صوَّت ، عن قناعة ورضا. وأن أي محاولة للتشكيك هي في الحقيقة تشكيك في كل الشعب الذي قال رأيه بحرية!. بقي أن ننظر إلى هذا الواقع الجديد ، الذي لا يعني التخوف منه أو التحذير معه أي معنى ، ورجل السياسة والفكر إنما يهتم باستشراف المستقبل أكثر من اهتمامه بنبش وقائع التاريخ!. إن الفرصة كبيرة وكبيرة جدًا ، للجهات الدولية والعربية ، الحكومية والخاصة ، لكسب المشاريع المطروحة من السياسيين الرسميين بما فيهم الإسلاميين في توجههم. وأن يتذكروا تجربة أردوغان في تركيا ، ومهاتير محمد في ماليزيا ، ويراجعوا حجم الصادرات التي قفزوا بها في بلادهم ، والمشروعات التي حققوها في نمو وتطور مجتمعهم ، وفوق ذلك واقعيتهم ومصداقيتهم الغالبة أمام العالم. إن الفرصة أمام الجهات الدولية والعربية لاحترام الديمقراطية في شكلها ومضمونها العربي الحديث ، واستثمار متغيرات المستقبل ، وفي الحال التي يعود فيها التفكير العربي بشقيه الحاكم والمحكوم لعقدة (من معنا ومن ضدنا) دون قراءة هادئة واعية مستقبلية ، سيجعلهم يراوحون في أماكنهم ، في زمن ذوَّبت العولمة الفوارق ، وقطعت كل مسارات التضييق المعرفي والنفسي ، وحوّلت الهيبة الحقيقية لمن يغير الحقائق بالأرقام والمواقف!.