قال أحدهم وهو يوصي ابنه: (في هذا العالم تختلف وجوه النّاس ، ولغاتهم ، وعاداتهم ، وأديانهم ، وثقافاتهم .. ولكن ، تأكّد أنَّ البشر الأخيار في كلّ مكان .. وتذكّر أنّهم جميعًا -مهما اختلفت أشكال أنوفهم- يستنشقون نفس الأكسجين الذي تستنشقه ، وعندما ينزفون -مهما اختلفت ألوانهم- جميعهم دماؤهم حمراء. أحب النّاس الخيّرين في أي مكان في هذا العالم ، وأنحز إليهم بقلبك .. ولا تكن عنصريًّا وتكرههم لاختلافهم عنك. هل تقبل أن يكرهوك لاختلافك عنهم؟!). تصحّ أن تكون تلك الوصيّة مفتاحًا جيّدًا لما يتبعها من كلمات أو سطور. لقد كان والدي - حفظه الله ورعاه- يقول لنا: (قدموا أخلاقكم) ، بتلك العبارة كان ينبّهني وإخوتي إلى تمثّلها في كلّ شؤون حياتنا ، ثمَّ يردف بقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). لقد كانت تلك المقولة ذات الكلمتين تمرّ عليَّ - خاصّة - مرور الكرام دون تعقّل لمعانيها ، أو تفهّم لمقاصدها المتّسقة مع الخبرة والدّربة ومخالطة المجتمع وما يصدر منه من أقول أو أفعال. كنتُ أحسب أنّ تلك المقولة التي يرنو الوالد - رعاه الله- إلى بعثها في نفوس أبنائه وإسقاطها على واقعهم مردها إسكاتي وإخوتي عن بعض الأخطاء التي يرتكبها بعض البشر!! هكذا كنت أظن ؛ وهكذا تبرّمت منها وهو يرسلها إرسالًا إلى قلوبنا الصّغيرة ، ويلقيها إلقاءً في عقولنا الغضّة ، ويقذفها قذفًا نحو فتوّة الشّباب وعنفوانه حال الصّلف والحمق والتّسرع!! ثمّ كبرنا ؛ وكبرت معنا تلك المقولة ، وتفهمنا جيّدًا ما تحمله من مضامين جوهريّة في التّعامل مع عباد الله ، واستوعبنا أبعادها الخُلقيّة وما تحمله من أفياء التّسامح والعفو والتّجاوز والصفح ، وتقديم حسن الخلق وكريم الصّنيع ، فبات الواحد منا يحاول أن يستميت في (تقديم أخلاقه) وهو يواجه في كثير من الأحيان بشرًا ضعف عندهم سمت المروءة بما تحمله من أدب ، وصدق ، وإخلاص ، وأمانة حتّى ولو على حساب المبادئ التي تَخْرج منها إلى ما يشبه المبدأ الميكيافلي في التّعامل مع الناس. إنّ بعض النّاس لو استمتَّ في التّعامل معه بكلّ ما يصطفيه البشر من لسان ودود ، وقلب شكور ، وعمل مخلص ، ما نظر إليك إلاّ كما ينظر المتعالي المتكبّر إلى الفقير المستصغر!! وإنَّ بعض البشر لو قدَّمت له حسن التّعامل ، ومهدت له الطّريق في تقديم أخلاقك ، ما حسبك إلاّ ذلك الضّعيف الذي يتلبّس لبوس الضُّعفاء ، أو ذلك المسكين الذي يُداري بجلبابه صنو المحتجين والمعوزين..!! كما أنَّ بعض النّاس يظنّ بك في ما يصدر منك من قولٍ لين ، وعمل ثمين ، وجهد مضن ، إلى ظنون لا تخرج عند دائرة المصلحة والحاجة! كلّ أولئك ومن لفّ لفهم ، لا يستوعبون درس الحياة ، ولا يريدون أن يستوعبوها ؛ لأنَّهم يبنون كلّ ما يصدر عنك ومنك بناءً على تصورات خاطئة ومقاسات متعرّجة تبارى المجتمع في غرسها في العقول ، وكرّسها بعض النّافذين من خلال التّعامل المصلحي والاقتيات على الكذب والمخاتلة والتّزويق ؛ ولكن أنَّا لهم أن يمحوا تلك المقولة من الذّاكرة: (قدموا أخلاقكم).