يكاد يجمع مفكرو العالم الإسلامي على أهمية خطبة الجمعة ودورها في رفع مستوى وعي المجتمع والرقي بسلوكه ومعالجة إشكالاته ، وفتح نوافذ وأبواب الأمل للشعوب حتى لا يتمكن منهم اليأس والإحباط والتخاذل عن الجد والعمل والإبداع وتوليد الطاقات الخلاقة ، وما أجل وأجمل محاسن الصدف التي تتيح لك ذات جمعة الاستماع والإصغاء إلى خطيب متزن ومتوازن ، ومفوه وبليغ ، يعي مقاصد الشرع ، ويتقن بمهارة أسلوبية الوعظ ، ويحمل من المشاعر حساً إنسانياً يتجلى في تعاطفه مع المسيء والمذنب وغير المسلم ، وحرصه على هداية الناس وإدخالهم في دين الله أفواجا ، فيمرر كلماته المشبعة بالعاطفة تمرير الحكماء ، ويصوغ العبارة في قالب العارفين اللطفاء ، ويشيع في المستمع روحا من وعظه تتسم بالتسامح والرفق واللين ، ويقنعك دون سبق أو ترصد إنه يعتلي هذا المعتلى ويرتقي هذا المرتقى لينفع الناس دون حاجة لفجاجة وفظاظة الألفاظ وجارح الجمل والكلمات وساقط القول وفاحش العبارات. وقل ما قلبت كفّي بعد رفعهما للتأمين على دعاء الخطبة الثانية خلف خطيب متصالح مع ذاته ومع المصلين ومع الناس أولئك هم الخطباء حقاً ، المتجاوزون سقطات الخطاب الصحوي الاستمالي والمراوغ ، القائم على تجييش الناس ضد بعضهم وضد مجتمعاتهم اعتمادا على مخاطبة وجدانهم ، ودغدغة واستثارة عواطفهم ومشاعرهم وتوظيفها لخدمة أدلجة يعيها أو لا يعيها الخطيب ، لتظل جمهرة المصلين في شحن نفسي دائم ، ويستمر رواد ومرتادو المساجد لأداء الفروض الخمسة أو صلاة الجمعة أسارى الخطاب الوعظي المحرّك في كل الاتجاهات عدا الصائبة منها غالباً ، فقد ركز الخطاب (الصحوي) منذ ما يقارب ثلاثة عقود على تحميلنا مسؤولية الدفاع عن المسلمين في كل مكان ، وجنح بالشباب في متاهات الدفاع عن مشاريع خيالية ومستحيلة التحقق ، وأرهق المجتمع بالفكر الحركي وأدبيات رموزه ، وأتاح الفرص لكل ملتح أو مقصّر لثوبه أن يعظ الناس ، ويتسنم المنابر ليدلي بما شاء دون وعي لخطورة ما يقول وإن كان ما يقول مدعاة للفساد ، ولقرب من عالم الخطابة رصدت شخصيات متشنجة متصدين للوعظ برغم محدودية التعليم ، وينالون من المعجبين بشخصياتهم وبلاغتهم الإطراء والجمهرة ليغدو هؤلاء أتباع الجماهير ومحققي تطلعاتهم ، ناهيك عما يبلغه عاشق شهرة وتمظهر. وبرغم أن وزارة الشؤون الإسلامية تجاهد في سبيل إخراج جيل من الوعاظ المستنيرين ، والمتمكنين من علمهم وحكمتهم وقدراتهم في مخاطبة المجتمع بما يعقل وبما يمكنه التفاعل معه دون مشقة ، إلا أن بلوغ الهدف لم يكن وإن كان سيكون عسير المنال لكنه غير محال ، فأعداد الخطباء في تزايد والوعظ والخطابة تتنامى في المساجد والمخيمات ، ما ينبغي معه شرعاً ونظاماً أن لا تكون الخطابة مهنة من لا مهنة له ، ففي هذا مدعاة للعبث بمشاعر المواطنين ، ولخبطة أوراقهم ، وتحميلهم ما لا يحتمل من هموم الآخرين ، ونسيانهم لهمومهم ، والتعامي عن سلبيات مجتمعهم وأخطاء سلوكياتهم ، وبما أن الدين لون من ألوان التعبير الإنساني عن العواطف والمثل العليا كما قال الفيلسوف الهندي طاغور ، فإن اختزاله في طائفة الوعاظ غير المؤهلين باللغة والوعي اللازمين لتوعية ذواتهم قبل نشر الوعي في غيرهم يجنح بالخطاب الوعظي عن مساره وتغدو آليته المثلى متمثلة في العودة إلى الماضوية لاستحضار النموذج المتخيلة والإصرار على تبيئتها في عالم اليوم ، ما يسهم في تعطيل العقل وإلغاء الزمن ، وإغفال التطور وتجاهل العمل على الحاضر وكأن الماضي والحاضر والمستقبل بساط ممتد لا يتحرك ولا يتموج كما يقول محمد الجابري في كتابه (نحن والتراث). و لا ريب أن القارئ يستمع في كل جمعة وفي دعاء القنوت في رمضان ما يردده بعض الخطباء من أدعية مستفزة منها (اللهم أهلك أعداء الدين، واخذل من خذل الإسلام والمسلمين) وللحق فقد أثارت هذه الأدعية في داخلي تساؤلات منها: من هم أعداء الدين؟ ومن الذين يخذلونه؟ هل هم كما يتصور معظمنا من خالف معتقدنا وشريعتنا ومذهبنا؟ أم أنه عام يمكن أن يدخل فيه حتى الخطيب ذاته حين لا يحسن فهم الإسلام ولا يجيد التعبير عنه ما يضعه في مقدمة أعداء الدين وأول خصومه ، ومن قصص التراث أن الحجاج مر بصبية يلعبون فهربوا إلا واحدا منهم فقال له الحجاج : لم لم تهرب شأن رفاقك؟ قال الغلام : لم أرتكب جرما أو جناية لأهرب ، فقال الحجاج : هل معك شيء من القرآن؟ فقال الغلام: نعم ، قال : اسمعني ، فتلا عليه : (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجا). ففتح عليه الحجاج (يدخلون) فقال الغلام : كانوا يدخلون زمن النبي صلى الله عليه وسلم أما في زمنك يا حجاج فإنهم يخرجون