ففي كل يوم ؛ نسمع عن خصومات تقع بين الناس ، ونشاهد صراعات ومنازعات تحدث هنا وهناك ، أغلبها لأسباب دنيوية، ومعظمها في مواضيع يسيرة ، وقضايا بسيطة ؛ لا تستدعي التوتر ، ولا التضخيم ، ولا التأزيم. إن الاختلاف صفة طبيعية من الصفات البشرية المكتسبة ، قال الله تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، فالإنسان يرافقه عدوه اللعين (الشيطان) ، المكلف بالتحريش والغواية ، والذي لن يسلم منه أحد من البشر ، حتى أكثرهم علماً ، وأحسنهم تقوى. تحدث المخاصمات بين الدول مع بعضها البعض ، وتقع بين الحكام والشعوب ، والرؤساء والمرؤوسين ، والأزواج والزوجات ، وكذلك بين الأقارب والجيران والأصدقاء ، فينتج عنها حدوث القطيعة ، وزرع الضغينة ، وتوليد الكراهية ، وتفريق القلوب ، وفتح صراعات ، وجلب آثام ، وانتهاك حرمات ، وارتكاب محرمات. فكم حروب قامت ، وبيوت هدمت ، وأموال صرفت ، وأوقات ضيعت ، وأنفس تفرقت ، وحياة فسدت ؛ والسبب خلافات بسيطة وقعت ، وهفوات يسيرة حدثت ، والتي كان من الممكن تلافيها ، إذا توفر المصلح الصادق الأمين ، الذي يفض النزاع ؛ بتبيين الخطأ ، وإظهار الصواب. كنا بالأمس نعالج مشاكلنا بيننا ، داخل نطاق ضيق ، وفي سرية تامة ، إذ كان بيننا المصلح المتطوع ، الذين عمل على توثيق روابط المودة ، وإعادة جسور المحبة. كان أهل النزاع يأخذون بنصيحته ، ويعدونها حكماً ملزماً بالنفاذ ، وهو الذي مازال موجوداً ومطلوباً ؛ في مجتمعات قروية ، وجماعات بدوية. لقد عصم الله بالمصلحين دماء وأموال ، وويلات وتطورات ؛ كادت أن تتأزم، لولا فضل الله تعالى ثم بفضل جهود المصلحين ومساعيهم ، فلماذا لا نحرص على درء الخصومات ، وقطع المنازعات -كما كان قديماً- دون الرجوع إلى المحاكم الشرعية ، والجهات الأمنية؟! ، والتي تعاني من كثرة المراجعين ، وتأخر المعاملات ، وطول الإجراءات. إن الإصلاح بين الناس عبادة عظيمة ، حثنا عليها الخالق سبحانه وتعالى ، الذي قال : [وأصلحوا ذات بينكم (الأنفال :1)] ، أعظم ما يجنيه المصلح من وراء عمله الكبير : [إنا لا نضيع أجر المصلحين (الأعراف: 170)] ، وقال عليه الصلاة والسلام : (أفضل الصدقة إصلاح ذات البين) ، وذكر الأوزاعي (رحمه الله تعالى) : (ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين ). إن المجتمع يبحث عن المصلح العادل ؛ صاحب النفس الأبية ، والأخلاق الحسنة ، والسيرة النظيفة ، المصلح الذي يملك الكفاءة والنزاهة ، ويجيد مهارة الاستماع ، وأساليب الإرشاد والإقناع ، والذي يبذل ماله وجهده ووقته طلباً للأجر والثواب من الخالق سبحانه ، وتحقيقاً لقيمة الأخوة ، وواجب النصيحة ، وأهمية الوحدة واللحمة. ألا يمكن أن يكون لدينا في كل مسجد من مساجدنا ؛ لجنة تطوعية من المتقاعدين مثلاً ؟! تقوم على النظر في مشاكل الجيران ، وتعمل على علاجها ، وعقد راية الصلح بين طرفيها ، هذه اللجنة إن تكونت ؛ سوف تنجح إذا سلكت المنهج الرباني ، واتخذت النبراس التالي : (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).