حينما يتأمل الإنسان حالة النهايات المفزعة التي تنتهي بها حياة الطغاة والمفسدين في الأرض ، سواء أكانوا أشخاصاً أم دولاً ، يتوقف عند حقيقة ناصعة -قد يغفل عنها الناس- أما أهل الطغيان أعوانهم فهم عنها غافلون بلا شك. إنها حقيقة التدبير الإلهي الذي لا تستطيع أعتى قوة بشرية أن تقف في وجهه أبداً ، التدبير الإلهي الذي يخرج من تحت أيدي الطغاة ، وأمام أعينهم ومن بين ظهرانيهم ، وربما من أقرب الناس إليهم مَنْ يقتلع طغيانهم من أساسه ، ويقض مضاجعهم حتى يواجهوا نهاياتهم التي لا مناص منها. لقد رأينا كيف قدر الله سبحانه وتعالى أن يُربّى موسى عليه السلام في قصر فرعون ، وأن يحدث بعد ذلك من الأحداث ما جعل بني إسرائيل وهم تحت سيطرة فرعون ودولته الظالمة ، يعيشون حياة الذل والإهانة ، والخضوع المطلق، ينتفضون مع موسى وهارون عليهما السلام ، كما رأينا كيف تحوَّل رجال فرعون المخلصون له ، المتعلقون به وهم (السحرة) إلى قوة معنوية هائلة لموسى وقومه ، ثم كانت نهاية فرعون المتغطرس الأعمى عن الحقيقة الناصعة التي أمامه على أيدي هؤلاء الذين كانوا تحت نظر استخباراته وعيونه المبثوثة في كل مكان. لقد ترعرع الفريق المؤمن الذي هدَّ صرخ الطغيان داخل الصرح نفسه ، ولم تَنْفَعْ فرعون وهامان وجنودهما (الاحتياطات الأمنية الهائلة) التي كانت ترصد حركات موسى ومن معه ، ولم يكن طغيان فرعون يسمح له أبداً أنْ يرى الأشياء على حقائقها ، حتى وهو يساق بتوفيق من الله وتدبير منه سبحانه إلى نهايته الأخيرة لم يكن يرى إلا نفسه المتغطرسة ، وانتفاخ أوداجه كبراً وتيهاً على الناس ، ولما أدركه الغرق قال : {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}. وكأني بكل قطرة في ذلك البحر المتلاطم الذي أغرقه ومن معه تقول له : (فات الأوان يا رمز الطغيان). كما رأينا قصّة أهل الكهف تعطينا صورة أخرى لهذه الحقيقة الثابتة ألا وهي خروج من يحطمون الطغيان من بين يديه ، ومن الفئة التي تعيش معه ، لأن الله إذا أراد عقابه أعمى بصيرته ، وبصيرة بطانته ومستشاريه ، فالشباب الذين أنكروا على الملك الطاغية (دقيانوس) هم من أبناء وزرائه ورجال دولته ، وقد هددهم وتوعدهم ثم أعطاهم مجالاً ليتوبوا من صلاحهم وإيمانهم ، ويعودوا إلى رشدهم الأعوج -كما يراه هو- ملحدين فاسدين غارقين في متع الحياة المحرَّمة. ولا بأس أن نقفز -اختصاراً لهذا الموضوع الكبير- إلى مكةالمكرمة بعد أن انبثق فيها نور الإسلام بما أنزل الله من الوحي على محمد عليه الصلاة والسلام ، فقد خرجت الفرقة المؤمنة الصابرة من أصلاب عُتاة الكفار ، ووقفت متحدية لأصناف التعذيب التي تفنَّن المشركون فيها ، ولم تثن تلك الفئة المؤمنة التي خرجت من أصلابهم ، تلك القسوة والبشاعة في العقاب ، بل إن قتل سمية ، وياسر والدي عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين قد كان الشرارة التي زادت من إشعار نار الصمود من شباب الإسلام في ذلك الوقت ، ثم رأينا هذا الجيل المؤمن بعد سنوات قصار ، يهزم قوَّة المشركين العاتية في معركة بدر الكبرى ، ويدخل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحاً منتصراً ، ومن بقي من كفار قريش يراقبون هذه المسيرة الظافرة ، وهم لا يكادون يصدقون ما يرون. ولا بأس أن نقفز قفزة أخرى إلى فلسطين لنأخذ العبرة من شباب الانتفاضة الذين خرجوا من بين استخبارات دولة اليهود الغاشمة ، وبرزوا من بين أصابع يد طغيانها الباطشة ، وما هم إلا جزء من شباب فلسطين الذين وضعت لهم دولة المغتصب أقوى برامج الإفساد والتفسيق ، وفتحت لهم أبواب اللهو والمجون والشهوات على مصاريعها. مَنْ أخرج هذه السواعد التي حملت الحجر في وجه قوَّة حاقدة غاشمة وقال بملء فم البطولة : (لا) وما أعظمها وأجملها من (لا) أما ما جرى ويجري في بعض الدول العربية ، فهو شاهد معاصر على أن الله يفعل ما يشاء وأن كل ما يرسمه الطاغية من خطط مهما بذل في إتقانها يذهب هباءً منثوراً. لو أن أهل الباطل يفقهون و(لو) هنا على حقيقتها ، حرف امتناع لامتناع ، أي أنهم (لا يفقهون) فعلاً ، ولو كانوا يفقهون لما رأيناهم يكررون الأخطاء نفسها المكابرة ، والاستهانة بالناس ، وإراقة الدماء والتعذيب لإرهاب الناس ، وكأنهم لم يفطنوا إلى ما جرى أمامهم من الدروس والعبر. إشارة : (لو أن أهلَّ الباطل يفقهون).